الاختلاف والتواصل - التعددية والتسامح
ليلى سعيد
قدَّم لنا صديقنا الدكتور ميسرة طاهر استاذ علم النفس في جامعة أم القرى في مكة المكرمة قريباً له ويدعى ( أبو كلام ) ، وجدنا أن اسمه ليس من الأسماء التي نعرفها ، وتساءلنا هل هذه العائلة دمشقية ؟؟ فأجاب صديقنا : نعم إنه يوجد في دمشق بنفس الاسم عائلات سنية وشيعية ومسيحية ، وأتبع كلامه مازحاً لاتظنوا أن قريبي هذا مسيحيا ً ، فقلت بشيء من العفوية والارتجال والترحيب بالضيف : حتى لو كان مسيحيا ً إننا نستقبله بكل الحب والاحترام ، وأردت أن أضيف إننا تجاوزنا العنصرية في مجالات الانتماء على أساس المذاهب والأديان ، ولكن شعرت بأنه لايجوز لي ، بل لايحق لي مثل هذا التصريح الضخم في قضية لها جذور عميقة عمق التاريخ بهذه البساطة ، بل علي عرض فكرتي بتواضع أكثر .
إننا نزعم لإنفسنا أننا تجاوزنا هذه العتبة ربما بنسبة كبيرة ، وهذا مؤشر جيد لإنه لولم يتم تجاوز ذلك 100% ، فإن التخلص من ضيق التعصب ، والانغلاق إلى 80% ، يجعل الاعتراف بالباقي 20% سهلاً ، كما يستطيع المرء إخضاع ماتبقى للبحث والدراسة ، فضلا ً عن تجنب السلبيات والأمراض التي تنتج عن ذلك .
هكذا بدأنا الحديث ، وتناول استاذ علم النفس الشرح بأن : مابين أقصى الانفتاح ، وأقصى
الانغلاق درجات يتحرك الناس ضمنها ، وكلما استطاع الإنسان أن يخطو خطوة إلى طرف الانفتاح ، يكون قد ابتعد خطوة من حافة الانغلاق . واستمر الحديث بيننا وكلنا ممن يتحرقون شوقا لمعرفة السلبيات الموجودة في نفوسنا وأفكارنا بحيث أدى إلى الواقع المرِّ الذي نعيشه ، وكلنا نُجمع أننا لسنا راضين عنه بل يجب التآزر مع كل المهتمين لتغيير هذا الواقع . وهكذا أدلى كل منا بالرؤية التي يراها تقرِّب إلى طرف الانفتاح ، وتُبعد عن طرف الانغلاق ، واستحضرنا الأدوات التي يعالج بها كلٌ منا مثل هذه الأمور .
من أدواتي التي استحضرها في مثل هذه المحادثات إمكانية الرؤية الشاملة للرحلة البشرية ، وقد شعرت بأهمية هذه الأداة من أدوات المعرفة لأول مرة حين قرأت كتاب ( معالم تاريخ الإنسانية ) للكاتب هـ . جـ . ويلز .
إن الإنسان الذي يستطيع الرؤية الشاملة في أي موضوع يعالجه ، يخرج بنتائج أفضل من الذي ليس عنده قدرة إلا على رؤية محلية محدودة . وقديماً قيل ليس من عاش طويلاً بل من رأى كثيراً ، ومن إمكانيات هذا العصر رؤية الرحلة البشرية ، ومشاهدة أحداث تاريخ البشرية ولو في عمومياتها .
ونحن - كمسلمين - حين يتبين لنا أمراً ، أو حين ننتبه إلى أداةٍ من أدوات المعرفة الحديثة ، علينا أن نراجع القرآن الكريم ، ونقرأه لنرى هل هذا الذي كشفناه له سند في كتاب الله ؟ وهل تشهد آيات القرآن على صحة هذه المعرفة ؟ أو لو عكسنا الموضوع فقلنا : هل هذا الكشف يشهد على صدق آيات الله في الكتاب ؟؟ من منطلق قوله تعالى : (( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق )) .
ماذا نجد في القرآن الكريم بهذا الصدد ؟؟
إن الله تعالى يأمرنا بتأمل أخبار الغابرين ، ويقص علينا قصصهم ، ففي سورة ( المؤمنون ) يقص علينا قصة نوح ، ويختمها بقوله تعالى : إن في ذلك لآية وإن كنا لمبتلين . ويتبعها ( ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ) ، ويختم قصة ذاك القرن بقوله تعالى ( فجعلناهم غثاءاً فبعداً للقوم الظالمين ) ، ثم يروي قصة أقوام أخرى في نفس السطور بقوله تعالى : (( ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ............... ثم قصة موسى وأخاه هرون إلى فرعون .
نرى في أسطر معدودة عرض لقرون من تاريخ البشرية ، قصة نوح ، يليها قصة قرن ، ثم قصة قرون ، ووصفه تعالى عن نهاية أحد القرون : جعلناه غثاءاً فبعدا ً للقوم الظالمين .
ونعلم من حديث رسول الله e أنه حذر المسلمين في حديث القصعة من يوم يكون فيه المسلمون كثير ولكن ( غثاء كغثاء السيل ) . كأن الله تعالى يثير فينا الرغبة لمعرفة تاريخ البشرية ، ليس هذا فحسب بل ويأمرنا أن نكون شهداء على الناس (( لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ً )) .
كيف لي أن أكون شاهداً أن لم يكن لي قدرة على الرؤية الشاملة للرحلة البشرية والتي نحن جزءٌ منها ؟؟؟؟؟؟
كيف أكون شاهداً على (( المختلف عني )) إذا كنت أجهله ، وأجهل تاريخ تبنيه لهذا الذي يختلف عني به ، في الدين ، في المذهب ، في الحزب ، في الطائفة ؟؟؟؟؟
كيف السبيل أن أتقبله إن لم أعرف الأسباب التاريخية التي جعلته يختار ذاك الدين ، أو ذاك الحزب ، أو تلك النظرية في الفهم ؟؟؟؟
رؤية شاملة للرحلة البشرية :
قُدر لنا نحن أبناء هذا العصر أن نتواجد في الحياة ، في موكب الرحلة البشرية ، في مرحلة تجاوزت الكثير من العقبات التي واجهتها ، وتغلبت على الكثير من الآلام التي عانت منها وفي مجالات عديدة ، مما تتصل بحياة الإنسان وحاجاته .
وإذا كان يهمنا كأفراد أن نساهم في تخفيف معاناة البشرية ، لابد من معرفة لمحة شاملة عن هذه الرحلة البشرية التي تجري أحداثها على الكرة الأرضية ، ونعرف أننا جزء من هذا الخضم في هذه الرحلة ، مهما صغر حجمنا المادي كأفراد ، وقصرت أعمارنا المحدودة ؛ إذ أن حجم الإنسان الفرد بالنسبة للكون ، والأعداد البشرية الهائلة ضئيل وصغير جداً ، وعمر الفرد بالنسبة لعمر البشرية الممتد الطويل هو : كلمح البصر أو هو أقرب !! ويمكن للمتخصصين بالرياضيات أن يعطوا أجزاء من الثانية لهذا العمر نسبة لعمر البشرية .
هذه الرحلة لها من العمر ملايين السنين مرت فيها البشرية بمراحل عديدة وببطء شديد . ويروي توينبي في دراسته للتاريخ ، والذي صدر عام 1972 م وضمنه مختصر مجلداته العشرة مضيفاً إليه ملاحظاته التي استجدت : (( إن المليون سنة الأولى من حياة أسلافنا لم يترك البشر فيها إلا بعض العظام وشيئا ًمن الأدوات الحجرية ، وتعود الزراعة وتاهيل الحيوانات وصنع الأواني الفخارية والغزل إلى عشرة آلاف عام فحسب . والحضارة تعود إلى خمسة آلاف عام فقط ، وهكذا فإن اكثر مانعلمه عن تاريخ الإنسان يعود إلى هذه الأزمنة الحديثة نسبياً )) ( 1 )
الزمن الممتد بين نطق الإنسان والكتابة غير معروف على وجه الدقة ، وعمر القراءة والكتابة قُدر في حدود خمسة آلاف سنة ، وظل الإنسان يمشي على قدميه ربما لفترة مئات الآلاف من السنين ، وفقط ومنذ عشرة آلاف سنة استأنس الإنسان الحيوان وركبه ، ومنذ حوالي أقل من 200 سنة ركب الإنسان السيارة .
ومع تقدم البشرية تتسارع الأحداث ، وتقصر المسافات ، حتى أصبح يحلو لبعض الكتاب والباحثين أن يسموا الكوكب الأرضي بـ ( قرية الكرة الأرضية ) ، إذ أصبح في الإمكان أن يعلم سكان أقصى الأرض ، ماحدث من أحداث في أقصى الجهة الأخرى من الأرض ، وبهذا يصبح سكان الأرض جيرانك في هذه القرية .
إذا كان تعريف الجار أنه : من هو قريب منك وتعرف أخباره ، فإننا أصبحنا ليس فقط نسمع أخبار جيراننا بل نراهم رأي العين ، أصبحنا نرى جلود الجائعين كيف التصقت بعظامهم ، كما نرى المترفين الذين يتفننون في قضاء أوقات الترفيه والمتعة .
يقول توينبي في هذا الموضوع : (( إن معنى التاريخ يتغير حسبما تزداد معلوماتنا التاريخية ، فكل إضافة إلى التاريخ تغير معنى التاريخ كله ، إن معنى التاريخ فبل عام 1914 م تغير بعد اندلاع الحرب ، غير أن عصرنا يتميز بميزتين إحداهما التسارع الذي حصل نتيجة لتحطيم الأبعاد بعد تقدم التقنية الحديثة ، والميزة الأخرى أن الماضي اكتسب معاني جديدة بسبب خبراتنا الحالية ، وبسبب اكتشاف علماء الآثار من عالم النسيان حضارات لم تكن معروفة )) ( 2 ) . وأضيف هنا فقرة مما جاء في مقدمة كتاب (( أيها المحلفون )) ( 3 ) : (( الجهل هو الذي يحوِّل الإنسان إلى أداة ، وعدم نشر المعرفة هي أكبر الجرائم ، والذين يكتمون العلم مهددون بالنار ، هذا هو الدين وكثيرا مايختلط الأمر ، ولانجاة إلا بالمعرفة ، والمتدين الجاهل مثل غير المتدين الجاهل ، كلاهما شيء . هذا مايعلمنا التاريخ . والتاريخ مصدر المعرفة والعلم ، والله سبحانه يردنا إلى التاريخ حين يريد أن يثبت صدق قوله فيقول إن لم تصدقوا هذا ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) ، التاريخ هو مرجع القرآن ، وبكل التواضع والثقة أرى أنه ينبغي أن أقدم وجهة نظري كمسلم يراقب الساحة العالمية ، كيف ينبغي للمسلمين أن يقدموا أنفسهم في هذا العالم الصاخب ؟ على المسلمين فورا ً أن يثقوا بالتاريخ ، وأن لايشعروا بمركب النقص ، فيظنوا أن التحاكم إلى التاريخ إعراض عن الله ، بل التحاكم إلى التاريخ هو لب التحاكم إلى الله ، لإن الله تعالى هو الذي حكم التاريخ بسنن لاتتبدل ولاتتغير ، والتاريخ هو الحكم الفصل ، والتاريخ هو آيات الآفاق والأنفس ، والتاريخ أم العلوم ، ورحم المعارف البشرية ، حتى علم الاجتماع وعلم النفس هما من علم التاريخ ، والذي جعل ابن خلدون عالماً اجتماعياً لم يشهد التاريخ مثله ، إنما هو كونه مؤرخا قبل أن يكون عالم اجتماع ، إن علم الاجتماع انبثق مع علم التاريخ .
التاريخ هو معرفة (( كيف بدأ الخلق )) ، تاريخ الخلائق من الذرة إلى المجرة ، ومن بدايات الحياة الأولى إلى المجتمعات المتطورة ، والذي يجهل التاريخ لايوثق بعلمه ، وهو متبع لهواه شاء أم أبى .
التاريخ هو كلمة الله المجسدة ، كلمة الله المادية المرئية والملموسة ، التاريخ هو سنة الصيرورة ، سنة الزيادة في الخلق ( يزيد في الخلق مايشاء ) .
التاريخ هو الذي يغربل الصواب من الخطأ ، وصدق الله تعالى (( فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض )) ، الذي له العاقبة ( وهو الخير والأبقى ) ولايُعرف الأبقى إلا من خلال الزمن ، فكل ماثبت نفعه خلال الزمن ، خلال أطول زمن هو الحق ، حتى يأتي ماهو أنفع وأبقى )) اهـ
رؤية جغرافية اجتماعية :
لننتقل الآن إلى رؤية جغرافية واجتماعية بعد هذه الرؤية التاريخية ، لقد توافق أن يكون تواجدنا في هذا العالم ، أو في هذه القرية قرية الكرة الأرضية في عصر عُرف بــ ( عصر المعلوماتية ) وفي موقع جغرافي عرَّفه الباحثون والكتاب بأسماء عديدة ، فقد وصف مالك بن نبي في دراساته تحت عنوان مشكلات الحضارة العالم الحالي بأنه مقسوم إلى محورين : الأول هو محور واشنطن - موسكو ، والثاني هو محور طنجة - جاكرتا ، الأول هو محور الانتاج والصناعة والفعالية والذوق الجمالي ، والثاني هو محور الفقر والكسل والجهل . وسماه كتَّاب آخرون بـ خط الشمال - الجنوب ، فالمفكر الفرنسي ( جاك أتالييه ) وصف في كتابه ( آفاق المستقبل )( 4 ) : (( إن أحد المخاطر الخمسة التي تهدد العالم بأسره هو الانقسام بين الشمال والجنوب ، وإن نذر الشر مرتسمة في الأفق ، ويحذر من أن الحرمان الذي تعانيه بلاد الجنوب سيولد لديها اليأس ، وهو يفضي بدوره إلى التعصب والتطرف )) ، كما يُسمى هذا الوضع أيضاً بأسماء أخرى منها خط المستضعفين والمستكبرين ، والأبحاث الحديثة تعرِّف هذه الأوضاع باسم ( أصحاب الامتيازات ) الذين يمثلون 20% من سكان العالم ، والذين هم أصحاب محور الشمال ، أو محور موسكو - واشنطن ، أو محورالمستكبرين ، وباقي العالم الذين يمثلون 80% وهم في المحور المقابل ، محور الجنوب ، أو
محور المستضعفين .
فأين مكاننا نحن المسلمين في هذه الرحلة البشرية على وجه الكرة الأرضية في هذا الوقت من هذا العصر ؟؟؟ لانحتاج إلى تفكير كثير كي نجيب على هذا السؤال ، إننا في قسم الجنوب ، في قسم المستضعفين ، إننا من الـ 80% الذين يتحكم فيهم الــ 20% من أصحاب الامتيازات ، إننا من محور طنجة - جاكرتا !!!!
مما يُسِّر أصحاب الامتيازات في محور الشمال أن يتمكنوا من الاستمرار في الهيمنة على الجنوب ، ماذكره صاحب كتاب (( أمراء الإرهاب - لـ نبيل هادي )) ( 5 ) من أساليب على شعوب محور طنجة - جاكرتا مايلي :
(( غسل الأدمغة بواسطة الاعلاميين ، والصرعات التجارية والاجتماعية ، والتشجيع على زيادة الإنفاق العسكري بشكل يرهق معه اقتصاديات البلدان ، ويخفض من قيمة عملاتها ، ويزيد من المعضلات المعيشية ، أو افتعال وتغذية الخلافات القبلية والطائفية والدينية ، وتغذية الخلافات والنزاعات بين الأقطار والدول الفقيرة النامية لاستنزاف طاقتها في حروب إقليمية مدمرة )) .
بعد هذه الرؤية الشاملة للتاريخ والجغرافيا نعود إلى موضوعنا الأساسي أي موضوع : التعددية ، ماهي الصورة التي في أذهاننا عن هذا الموضوع ، وكيف ننظر إلى الشخص الذي ليس من مذهبنا أو ديننا أو ليس من طائفتنا أو حزبنا ، ولكنه من محور الجنوب أي من مجموعة الـ 80% الذين يسيطر عليهم أصحاب ال ـ 20% من أصحاب الامتيازات ، والذين يحكمون هيمنتهم علينا من خلال تغذية الخلافات بيننا في هذا المجال ؟؟؟
كيف ستكون الصورة إذا أصبحت أحترم المختلف عني ، وأقدر له
فهمه في دينه أو مذهبه ، ولا أحرص أن أجعله يتبنى ديني أو مذهبي ، وإنما أتعاون وإياه لنفهم كيف أصبح كل منا في هذا الدين ، أو الطائفة ، أو المذهب ؟؟؟ ماهي الظروف التاريخية التي وضعتنا حيث نحن ؟؟ إن هذا الفهم يختلف كليا ً عن محاولة إقناع ( المختلف عني ) بأن مايتبناه خطأ ، وأن الذي أتبناه هو الصواب .
هذه الصورة جميلة ولكنها خيال في الوقت الحاضر إلا عند أفراد قلائل انتبهوا إلى سنة نشأة الأحزاب والمذاهب وفهم الأديان ، لنذكر كمثال على ذلك السنة والشيعة ، فالاثنان ينتميان إلى نفس الدين ، ولكن لكل منهما نهجاً مختلفا عن الآخر ، السنيون يسمعون بالشيعة ، إلا أن القليل من يدرك بعمق اتجاه التشيع ؟ ومن أين جاء ؟ ومامغزاه ؟ وما معنى تشكله التاريخي ؟ ولماذا يحتشد في إيران بشكل خاص ؟؟ كلها أسئلة تحتاج إلى أجوبة موضحة للمشكلة .
وحين يستمع السني إلى الشيعي ، وكيف يفهم القرآن والإسلام واجتهادات الشيعة في هذا المجال ، فإنه سيشعر بغرابة وكأن هذا الإسلام هو إسلام آخر غير الإسلام الذي يعرفه ، ونفس الشيء ممكن أن يحصل مع الشيعي حين يدرك فهم السني .
هذه هي النقطة الحرجة ، حين يشعر كل واحد منهما أن الآخر يختلف عنه في الفهم . والآن ماهو الموقف الصحيح الذي ينقذ المسلمين من سلبيات التفرقة ؟؟
علبنا أن نستحضر موقفين : الموقف الأول وهو الشائع في واقعنا ، وهو شعور كل واحد أنه على الصواب ، والآخر على ضلال ، فعلى الآخر أن يترك مذهبه الضال ، ويتبع المذهب الصحيح الذي يفهمه هو ، أما الموقف الثاني : فهو أن يدرك أن هذا الدين ليس محصور على فهم ذا طابع شيعي أو سني ، بل هناك إمكانيات لـ ( فهم آخر ) لاحصر له ، فأن يكون قد وجد نمطين من التفكير تاريخياً أو اكثر ، لايلغي ، وينفي ، ويعدم إمكانيات فهم آخر مختلف ، أنماط صوفية ، أنماط خارجية ، وغيرها وغيرها .......
لو قرأ السنة الشيعة ، أو لو قرأ الشيعة السنة ، ليس من أجل أن يتهم الواحد الآخر بالضلال ، وإنما من اجل معرفة أنها خرافة إدعاء فهم الإسلام بهذا الوجه الوحيد والمفرد والثابت .
إذن أمامنا موقفين : الأول هو الذي نراه ، أما الثاني فإنه لايكاد يُرى من يتبناه ، لو أردنا أن نذكر أمثلة على الموقف الأول ، لوجدنا الكثير من المشاهد لدى كل من طرق هذا الموضوع . وأذكر مثلاً واحدا يبين مدى ترسخ الموقف الأول في وضعنا الحالي : كنت مع بعض المدرِّسات فقالت إحداهن : عُينت في مدرسة للشيعة ولكني رفضت التدريس فيها . فقلت لها : كان عليك أن تقبلي ، وانا أتمنى لو تتاح لي مثل هذه الفرصة . فقالت : عسى أن تقنعيهم ؟! فقلت لها : ليس من أجل إقناعهم ، وإنما من اجل التعرف أكثر على أسلوب فهمهم .
وكانت بالمقابل أخت من الشيعة تحضر مع مجموعة من السنة في لقاء ثقافي فكري ، فعلم بعض ذويها بذلك وسألوها : هل أقنعتيهم بصحة مذهب الشيعة ؟؟
المسلمون لايدرسون كيف نشأت المذاهب ؟؟ وماهي الأحداث التاريخية والاجتماعية والسياسية التي جعلت بلاد فارس مثلاً تدين بمذهب الشيعة ؟؟ وكثيرا ً مما نظنه إلهي هو بشري واقعي اجتماعي ، وبعد اتخاذ الاتجاه تأتي التبريرات الدينية والعقلية .
من الصعب جداً أن يفهم السني أو الشيعي على حد سواء لماذا صارت إيران تدين بالمذهب الشيعي ؟؟ يجب أن نفهم هذا الحدث التاريخي الثقيل من خلال اللجوء إلى مفهوم حفريات المعرفة ، أي أن نرجع إلى الأكوام التاريخية ، والطبقات الجيولوجية المتراكمة عبر صراعات التاريخ ، وانصهار الأفكار وترسبها ، على شكل طبقات جيولوجية فكرية ثبتت ، ولم نعد نستطع قراءة أشكالها الصخرية الحالية الثابتة . إننا ننسى العامل التاريخي الانثروبولوجي السسيولوجي الذي صنع الشيعة شيعةً ؟؟ وكان يمكن أن يكون هؤلاء سنة ونحن شيعةً ؟؟!! إن هذا مهم جدا ً لفهم المفتاح التاريخي للمشكلة ، فعندما فتح المسلمون إيران ، لم تكن إيران بلدا ً صغيرا ولاهامشيا ً بل كانت امبراطورية عظمى انهارت بيد المسلمين رواد العدل العالمي في ذلك الوقت ، إلا أن الفترة اللاحقة لفترة العدل الأولى أفرزت الحكم الأموي بكل جبروته السلطاني والقمعي ، فضلاً عن إفرازاته الضارة في بعث الروح القبلية
والعشائرية وما فيها من أمراض الجاهلية ، وأمام هذا الانحراف تشكل جناح المعارضة تحت لواء آل البيت ، على أساس انهم يمثلون النقاء النبوي وعترة البيت ، ويجب أن نعلم أن مطاردة آل البيت تمت بنفس الدرجة من القسوة على يد الأمويين و العباسيين على حد سواء .
في كل مجتمع تتنافس الفئات المتعارضة من أجل الوصول إلى الحكم ، وترى نفسها أنها أحق بذلك ، وأن الاتجاه الآخر مخطيء وضال ، وكان التسلسل التاريخي هو محاولة قنص مستمرة للسلطة على يدي فئات مختلفة ، وبما أن دولة فارس امبراطورية عريقة في التاريخ ، وأهلها أولاد حضارة وثقافة قديمة ، فهم وإن كانوا أعلنوا الإسلام إلا أنهم سيكونون مع المعارض لهذا الحكم ، الذين هم آل البيت ، إذن من الطبيعي أن يكون هذا الوضع التاريخي الحضاري الانثروبولوجي في صف المعارضة وليس مع الحكم الأموي أو العباسي ، إن هؤلاء لن يكونوا مع الحزب الحاكم ، لإن ملكهم زال ، فعند إرادة التشكل الجديدة تتجمع كل هذه العوامل لتصب في تبني مذهب المعارضة المتمثل في مذهب آل البيت ، في وجه الجاهلية العربية ، والافتخار بالقومية وبالعشيرة العربية الأموية القرشية الهاشمية وماأشبه ذلك ، واقرأ لابن المقفع عن تلك الأيام يخبرك ، كان من الطبيعي جداً لهؤلاء الذين لهم تراث حضاري مختلف ، أن يكونوا مع الحزب المعارض ، وبذا أصبحوا شيعة ؟؟!!
عندما نفهم الموضوع بهذا الشكل سيقل تعصبنا المذهبي ونبتسم ونقول لبعضنا البعض : كان يمكن أن أكون أنا مكانك ، وأن تكون أنت مكاني !!! وسوف لاتكون هناك حروب طائفية ، ومالم نفهم الموضوع بهذه الشاكلة ففي الإمكان صنع حروب أهلية في كل منطقة من العالم الإسلامي .
الاختلاف والتواصل : بعد أن نقبل التعددية في المذاهب وننتبه إلى الأسباب التاريخية والاجتماعية والسياسية التي تصنع المذاهب ، يكون فهمنا للتعددية في الأحزاب والطوائف والأديان على نفس القاعدة ، وحينذاك نستطيع أن نتخلص من الحقد والكراهية والنفور تجاه المختلف عنا ، ونتواصل معه ،
ونستفيد منه ، والإسلام يحمي الاختلاف ، ويدعو له ، ويأمر بالتواصل (( لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ))
إن النفي المتبادل بين الجماعات والأحزاب ( أو يجعلكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) ، بين الشعوب وحكامها ، جعل إنسان العالم الثالث يدفع ثمنه غالياً ، إذ صار النفي للرأي الآخر سمتهم ، والحكم بالإعدام لمن يخالفهم شعارهم ، وهذا ناتج عن الفهم الخاطيء ، وعدم الانتباه إلى الأسباب التي جعلت الآخر آخراً ، وكما يقول المؤرخ ( ويلز ) : (( الدرس الذي يعلمنا التاريخ أن نظام هذا الكون يعاقب الحمقى والمغفلين كما يعاقب المجرمين ، والذين لم ينتبهوا إلى الأسباب والسنن لايغفر لهم على أساس ان نيتهم طيبة وسليمة )) ( 6 ) .
إن سنن الله لاتحابي أحدا ً ، فمن يجهل أو يتجاهل فيلقي بالأشياء فوق رأسه متجاهلا ً قانون الجاذبية ، ليس عليه إلا أن ينتظر لتسقط الأشياء فوق رأسه وتكسره ، سواء كان مؤمنا ًأو كافراً ، غنياً أو فقيراً . ومن لم يعرف قوانين الله في سنن الاجتماع والتاريخ فإنه سيظل يعاني من مصائب الخلافات والنزاعات ، ويدفع الأثمان الباهظة ، مهما كان مخلصا ً وذو نية طيبة .
فهل لنا أن نساهم بإجلاء هذه الأمور وتوضيحها ؟؟ علنا نخفف عن الأجيال القادمة بعضاً من المصائب التي نعيشها نتيجة الجهل المتبادل بين الجهات المختلفة . هل لنا أن نأمل بأن نتجاوز هذه العقبات ونتعاون جميعا ً لاحترام الرأي الآخر ، وفي إعادة الحس إلى الإنسان الذي يعيش محور الجنوب أنه ليس صفراً ، وليس بوقاً ، وليس بندقية تستخدم ، بل هو إنسان له حق الفهم والمعرفة ، كما عليه واجب احترام المختلف عنه . هذا مايسعى إليه المعهد العالمي للفكر الإسلامي والله الموفق .