كلمة توجيه وإرشاد لطلاب المرحلة الثّانويّة

صالح محمّد جرّار/جنين فلسطين

[email protected]

أيّها الشّباب , كان بودّي أن لا أتكلّم , لأنّ الكلام – أحياناً يكون لغواً ولهواً وقتلاً للوقت , غيرَ أنّي أرجو أن يكون حديثي اليومَ ذكرى , فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين !

لقد جئتم , أيّها الشّبابُ , إلى هذا المكان , لأنبل غاية , وأكرم هدف , جئتم لتضعوا أنفسكم حيث أراد الله لكم أن تكونوا من التّكريم والتّشريف , قال – تعالى – " قل هل يستوي الّذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟ " وقال رسولنا الكريم - صلّى الله عليه وسلّم –" النّاس عالمٌ ومتعلّم , وسائرهم همج " ويُنسب إلى الإمام عليّ – رضي الله عنه - قولُه :

ما الفخر إلاّ لأهل العلم , إنّهـمُ          على الهدى لمن استهدى أدّلاءُ

وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه          والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

فـفـز بعلـمٍ تعـش حيّاً به أبداً          النّاس موتى وأهل العلم أحياءُ

فما مجيئكم , أيّها الشّباب , إلى هذا المكان المنير إلاّ لتكونوا أحياء بالعلم , ولكن كيف تحيون بالعلم , وأنتم لا تقرؤون ؟! مهلاً كأنّي أسمع مَن يقول : ألا ترى هذه الكتب الّتي نحتضنها , وندخل بها إلى غرف الدّراسة ؟ أليت هي مورد العلم ومنهل المعرفة ودنيا القراءة ؟ بلى ,أيّها الإخوان , إنّ هذه الكتب المقرّرة مفتاح باب العلم الواسع , وإنّها النّافذة التي تطلّون منها على حقائق الحياة , ولكن ماذا تجنون من كنز المعرفة إذا اكتفيتم بالوقوف على بابه ؟وماذا تعرفون من روضة العلم إذا لم تدخلوها لتنهلوا من كوثرها العذب , وتجنوا من ثمارها الشّهية ؟

اعلموا , أيّها الطّلاب , أنّكم هنا ,في غرف الدّراسة , في دورة تدرّب على التّعلم , ولا أغالي إذا قلت : إنّ وظيفة غرف الدّراسة هي أن تعلّمكم كيف تتعلّمون . وأمّا مضمار العلم الأكبر فهو ذلك الرّكن الّذي يحتضن ثروة الدّنيا وميراث الأجيال والشّعوب !

إنّ المكتبة هي سرّ الحضارة , وطريق الأمم إلى الرّقيّ , فلولا وجودها في دنيا النّاس لما استطاعت البشريّة أن تبني يومها على أمسها , وغدها على يومها, بنياناً متراصّاً يتّسع ويستدير ,ويعلو عاماً تلو عام , وجيلا إثر جيل .

ولولا المكتبة لكانت البشريّة كرقّاص السّاعة, لا ينثني يعيد كل حركة من حركاته ضمن مدى ثابت وبسرعة ثابتة أيضاً .

فالمكتبة هي الرّكن الرّكين الذي تقوم عليه بناية المدنيّة والحضارة , وهي الينابيع الصّافية للمعرفة الصّافية , والمناهل العذبة للحرية العذبة, والمنارات التي لولاها لكان النّاس يتخبّطون في دياجير الجهل والتأخر.

اعلموا, أيّها الطّلاب , أن كبار المفكّرين , من أمثال عبّاس العقّاد , لم يستمدّوا من المدرسة إلا أقلّ القليل ,ثمّ بقي الكتاب في أيديهم , يؤاخيهم ويشترك معهم في أفراحهم ومآسيهم , ويدخل إلى بيوتهم ومخادعهم , وبهذه الصّداقة التي نشأت بينهم وبين الكتاب , وترعرعت على طول الزّمان , تغلغل الكتاب برسالته في أعماق نفوسهم ,فسار في خباياها , ونثر مكنوناتها غذاءً للعقول , ومعالم الطّريق للحياة !

ولا يقولَنّ أحدكم : إنني طالب علمي , ولا حاجة لي في المكتبة وكتبها , اللهمّ إلا كتاب الممتاز في الرّياضيات , وكتاب الواضح ي الطّبيعة , ثمّ على المكتبة العفاء !!

ألا – فلتعلموا – أنّ تخصص الفرد بجزء من العلم يحدذ أفقه , ولا يجعل منه مثقّفاً , له المدارك الفعّالة الواسعة التي لا بدّ منها ,حتّى يصبح في تخصصه عالماً مبرزاً .

والثّقافة , أيّها الشّباب , تعني الإلمام بنواحٍ مختلفة من المعارف . وإنّ الفرد الذي يجمع بين الثّقافة والعلم , تتعمّق مداركه , ويتّسع أفقه , ولا ينحصر فيما تخصص فيه . والثقافة تبني شخصيّته , وتسمو بها , وتميّزه بين أقرانه . والمثقّف أقدر على تدبير شؤون نفسه ورفع مستواه . وإنّ انتشار الثقافة في بلد , هو عاملٌ جوهريّ في تقدّمه , لأنّها تزيد من وعي الجمهور , بإدراك الفرد حقوقه وواجباته , فيترتّب على ذلك رقيّ البلد , ورفعة شأنه بين الدّول .

وإنّ الفرد الذي لا يقرأ ,لهو يوقف التّيّار الفكري الذي يربطه بالعالم , ويحكم على نفسه بالعزلة , وعلى عقله بالجمود وعلى ملكاته بالتّحجّر !

فالقراءة تنمّي الفرد , والفرد ينمّي المجتمع . ولن تكون تنمية بغير قراءة واعية. فهي المعلّم الأوّل للجمهور , حتّى ليتعذر تصوّر الحياة بدونها .

فالشّعوب تقرأ لتتعلّم , ثمّ تسخّر العلم في تحقيق التّقدّم , وتأتي – هنا – ملاحظة عابرة : وهي أنّ العلم إذا دخل دائرة الخلق , فقد اتّجه نحو الخير والبناء , وإذا خرق نطاقها فقد أصبح أداة شرٍّ وتدمير !!

اذكروا , أيّها الشّباب, أنّ العلم والثّقافة بالنّسبة لنا ليس ترفا , ولكنّهما سلاحنا الأساسي في معركة الحياة . وإنّ حضارة المسلمين الذين حملوا مشعل الفكر عن أهل الأرض قروناً , كانت قائمة على الثّقافة والعلم , ولولا حضارتهم لتأخّرت نهضة أوروبا عدّة قرون ! فلمّا تركنا جانبا الدُّرَر التي خلّفها لنا أسلافنا الأمجاد ,فلم يجد مثل الخوارزمي وابن الهيثم والبيروني وجابر بن حيّان وأمثالهم من العلماء والفقهاء , لمّا لم يجدوا طوال بضعة قرون الخلَف الصّالح الذي يوالي أبحاثهم , دفعنا ثمن ذلك غاليا , قروناً من الظّلام والتّخلّف , وأصبحنا بعدها عالة على غيرنا !!

وأخيرا , ثقوا أيّها الشّباب , أن لا حياة لنا ولا عزّة ولا كرامة ولا تقدّم إلا بالكتاب المنير , والقراءة الواعية الدّائمة , والخلق القويم , والعزيمة الصّادقة , والعمل المثمر ! " وتلك الأمثال نضربها للنّاس , وما يعقلها إلا العالمون " صدق الله العظيم.