فقه البنيان
م. أسامة الطنطاوي
تنشأ الحواضر و المدن و التجمعات السكانية كنتاج لتلبية رغبات وحاجات البشر الاساسية ويرجع تحديد نـشأتها الى عوامل البيئة الطبيعية والثقافية والموقع المكاني ، ومـن ذلك يمكن اعتبار المجتمع هو اللبنة و الاساس في تحديد الشكل الفيزياوي للمدينة.
وقد لعبت العقيدة الاسلامية دورا اساسيا في تنظيم الحياة الاجتماعية وبالنتيجـة انعكست بشكل مباشر على شكل العمارة وتخطيط المدن اضافة الى عامل اخر مهم الا وهو عامل (الحماية والتحصين) .
ومنذ بداية الحضارة الاسلامية وحتى العهد العثماني كانت المدن الاسلامية ذات ميزة بيئية و تخطيطية واحدة حيث ان هذه المدن تحتوي على صفات متشابهة على الرغم من الاختلاف في تكوين النسيج الحضري التقليدي والذي كان متمثلا بالنسيج ذو الباحات الضيقة والملتوية مستفيدا من طبيعة وشكل الارض،على الـرغم مـن وجـود اخـتلاف فـي المعالجات المعمارية نتيجة الخلفية التاريخية والتكنولوجيا والمواد البنائية.
وقد أدى تطور الدول الإسلامية وتوسع مدنها الى ظهور ما يمكن تسميته بفقه البنيان ، الذي يهدف إلى تحديد وتنظيم العلاقات بين الناس والسيطرة على البناء وحل المشاكل التي قد تنجم بين مستخدمي المكان و حقوق الجوار وغيرها.
وفقه البنيان هو مجموعة القواعد الفقهية التي تراكمت بمرور الزمن نتيجة لاحتكاك حركة العمران والمجتمع كلاهما ببعض ونشوء تساؤلات اجاب عنها الفقهاء ، هذه القواعد كان كل من المجتمع والسلطة والمهندسين يحتكمون إليها عند اللزوم .
ومن كتب الفقه التي اهتمت بأحكام البناء كتاب " الإعلان بأحكام البناء" لابن الرامي المتوفى سنة 734هـ . ويعتبر أول من سجل قواعد فقه العمارة من الفقهاء هو ابن عبد الحكم المتوفى سنة 214 هـ في كتابه " البنيان " .
واعتبر ابن خلدون "علم العمران البشري " و مايحويه هذا العمران من مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والمادية والعقلية ، وأن تغير العمران حقيقة أساسية ، فأحوال العالم والأمم لا تدوم على وتيرة واحدة ، وأن سبب التغيير هو أن عوائد كل جيل مرتبط بعوائد سلطانه .
وقد قسم الفقهاء احكام البنايات إلى أربعة اقسام رئيسية هي:
- البناء الواجب :
مثل بناء المساجد لتقام فيها الصلوات التي هي من أركان الاسلام ، و كذلك بناء الحصون والأربطة المخصصة للدفاع عن ديار المسلمين .
- البناء المندوب :
كبناء المنائر التي تندب للأذان ، وبناء الأسواق ، حيث يحتاج الناس للسلع و العمل بالتجارة ، ولكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها ، فندب الشرع لذلك بناء الأسواق كي يستقر بها أصحاب السلع ، ويسهل للناس شراؤها منهم .
- البناء المباح:
مثل بناء المساكن التي تبنى بهدف الاستغلال للمأوى، فمن المعروف ان الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمس: الدين، النفس، المال، العرض والنسل، والله جعل أسباباً مادية يقوم بها البشر، كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الأسباب بناء المساكن والدور ليحفظ فيها الناس انفسهم واموالهم واعراضهم، وتقيم فيها الأسر والعوائل .
- البناء المحظور:
كبناء دور السكر ودور البغاء والبناء على المقابر وفي أرض الغير.
ولم تكن العلاقة بين المباني علاقة جامدة ، بل دخلت أيضا في تحديد سلوك الساكنين للعقارات ، وضرورة احترامهم للخصوصية والآداب العامة ، وكان من حق الجيران اجبارهم على ذلك عن طريق القضاء إن دعت الحاجة لذلك ، و تذخر سجلات المحاكم الشرعية بالعديد من الوقائع التي تؤكد تضامن أهل الخطة أو الحارة ضد المخالفين من سكانها .
و اعتمد الفقهاء في تناولهم لأحكام البنيان على بعض الايات من القرآن الكريم ، وعلى الحديث الشريف ، وعلى بعض الأعمال العمرانية التي قام بها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين من بعده ، وعلى العرف السائد في المنطقة ، وذلك أخذا عن حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : (مارآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ) ، بالإضافة الى القاعدة الفقهية المتستنتجة من الحديث الشريف : ( لاضرر ولا ضرار ) .
وترتب على مبدأ " لاضرر ولا ضرار " ، و " الأخذ بالعرف " ، في تقرير أحكام البناء ، نشوء مبدأ " حيازة الضرر " ، الذي صاغ مكونات المدينة الاسلامية صياغة شاملة .
و " حيازة الضرر " تعني أن من سبق في البناء يحوز العديد من المزايا التي يجب على جاره الذي يأتي بعده أن يحترمها ، وأن يأخذها في اعتباره عند الشروع في بناء مسكنه ، وبذلك يصيغ المنزل الأسبق المنزل اللاحق .
ومن الواضح أثر فقه البنيان ومبادئه و اشتراطاته البنائية على تخطيط المدينة ، حيث نجد أثره جليا على تخطيط الشوارع و الطرقات والأزقة ، حيث حدد درجات الخصوصية في مواقع إنشاء الأماكن والمباني العامة وتدرجها وصولا الى مواقع المباني السكنية الخاصة .
و قد روعي في التخطيط توفير مساحات على أطراف المدينة للمنشآت التي تصدر ضجيجا أو تلوثا للبيئة مثل المصانع والورش و غيرها .
وبالمقابل فإن التخطيط الراهن للمدن الحديثة هو عبارة عن أداة ووسيلة لتحقيق المصلحة العامة لكافة فئات وقطاعات المجتمع بما يكفل تحقيق التوازن بين احتياجات السكان في الحاضر والمستقبل وهذا ينسجم مع مبادئ فقه العمران المستمد من الشريعة الاسلامية الغراء و تطبيقه في حياتنا المعاصرة.