ما هي المواطنة؟
د.غازي التوبة
يظن كثير أن "المواطنة" تعني "حب الوطن"، ولكن الحقيقة أن "المواطنة" لا تعني حب الوطن فقط، بل هي مفهوم غربي بدأ قبل الميلاد مع الحضارتين اليونانية والرومانية، وكان له معنى خاص في هاتين الحضارتين، وكان هناك تمييز بين مضمون المواطنة في كل من مدينة "أثينا"، ومدينة "إسبارطة"، المدينتين اليونانيتين، ثم أخذ معنى آخر في مرحلة العصور الوسطى في أوروبا، ثم أصبح له معنى ثالث في العصور الحديثة، ونحن سنلقي الضوء على هذه المعاني وتطوراتها، ثم سنرى صورته الحديثة في عالمنا العربي.
ليس من شك بأن الإسلام يقر ويعترف ويسمح للمسلم أن يحب وطنه وبلده ومسكنه وقومه وعشيرته لأن هذا الحب فطري، والإسلام يقر كل ما هو فطري فقد قال الله تعالى: "قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة، 24)
فمن الواضح أن الآية أباحت للمسلم أن يحب الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والأوطان لكنها اشترطت أن يكون حبه لله ورسوله أكثر من كل هذه المحبوبات، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبه لمكة فقال "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
كانت هناك إمبراطورية دينية إقطاعية في أوروبا في القرون الوسطى، تحالف فيها رجال الدين ورجال الإقطاع، وكانت مرحلة ظلام وتخلف، وقد أتسمت –تلك المرحلة- بالحجر على العقل والعلم واتسمت كذلك بكبت الشهوات وازدراء الدنيا، مما أدى إلى الثورة على هذه المظالم في مجالي النفس والعقل، وأدى إلى انبثاق مرحلة جديدة، تبلورت من روابط جديدة خارج إطار الدين المسيحي الذي كانت تفرضه الكنيسة، ومن هنا نشأت "الأمة والدولة والوطن"، وأبرز مثال على ذلك فرنسا التي تطابقت فيها الأمة مع الدولة، وارتبط بالأمرين السابقين الوطن الفرنسي، وكانت كل تلك العناصر: الأمة والدولة والوطن تقوم على حقائق ثقافية، وسياسية، وجغرافية، وتاريخية إلخ... ونشأت على ارتباط بالحقائق السابقة (المواطنة) التي تقوم على محتوى ومضمون ثقافي وسياسي وجغرافي وتاريخي إلخ ...
لم تتبلور "المواطنة" بهذا المضمون إلا في العصر الحديث، ففي البداية كانت المسيحية متنافرة مع المواطنة الرومانية، لأن المسيحية ليست في الجوهر دينا دنيويا، ولأنها قد علمت أتباعها على أن العالم الدنيوي فاسد ولا إمكانية لعودته إلى الصلاح، فالحياة الصالحة على هذه الأرض لا تكون إلا تحضيرا تقريبيا وغير واف لحياة الآخرة الصالحة في ملكوت السماوات.
وقد ربطت الثورة الفرنسية المواطنة بدفع الضرائب، وقد ميزت الثورة الفرنسية بين المواطن الفاعل والمواطن السلبي، فالمواطن الفاعل هو الذي يدفع ضرائب مباشرة تساوي أجر ثلاثة أيام عمل لمن هم دون مستوى المهارة العليا، وقد كان للمواطنين الفاعلين أن ينتخبوا في المرحلة الأولى ممثليهم الذين سيكونون ناخبين في المرحلة الثانية على أن يدفعوا بدورهم قيمة عشرة أيام عمل على الأقل كضرائب مباشرة، وقد كان المطلوب من النائب أن يكون من دافعي الضرائب بما يوازي أجر خمسين يوم عمل، ترجمت ماليا على أنها مارك فضي.
وقد اعتبرت المواطنة في انجلترا في فترة من الفترات مرتبطة بدفع الضرائب أو بامتلاك بيت في المدينة، لكن مبدأ "المواطنة" اتخذ منحى عنصريا في القرن العشرين في ألمانيا على يد النازية، وقد اعتبرت القوانين الألمانية أن المواطن هو ذلك التابع من دم ألماني، واعتبرت كذلك أن ألمانيا وطن لجميع الألمان حيثما كانوا، واعتبرت الشعب الألماني فوق الجميع، ولم يكن إنكار حقوق المواطنة بمعيار العرق مقصورا على ألمانيا، بل تعدى ذلك إلى جنوب أفريقيا والولايات الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث خضع الشعب الأسود إلى نظام التمييز العنصري، وتم إنكار حقوق المواطنة له بناء على كونه أسود.
ولقد بنى الرسول صلى الله عليه وسلم الإنسان المسلم في مع نزول كلمة "إقرأ" من السماء، ثم بنى معه الأمة الإسلامية التي جمعت أفرادا من قبائل متفرقة، ومن أمم مختلفة، ثم أقامت هذه الأمة دولتها في المدينة، وشكلت "الأخوة في الله" عماد العلاقة المترابطة بين أفراد هذه الأمة لقوله تعالى"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" (الحجرات، 10) ثم أقامت هذه الأمة علاقات "خاصة مع الأطراف الأخرى الموجودة حولها وأهمهم أهل الكتاب"، فأحل الإسلام طعامهم، وأحل الزواج منهم، فقال تعالى: "وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ" (المائدة، 5)، ثم أجرى تمييزا آخر بين أهل الكتاب، فجعل النصارى أقرب مودة من اليهود، فقال تعالى: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" (المائدة، 82-83).
ثم أقام الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة تحالفا سياسيا مع اليهود في مواجهة مشركي قريش، وجاء في بنود هذا التحالف أنهم يتعاونون في القتال في صد المشركين عن المدينة، وأنهم يتعاونون في دفع دية الدماء عندما تقع هذه الدماء، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أنهى هذا التحالف مع اليهود بعد خيانتهم له، وبدأ بيهود بني قينقاع بعد غزوة أحد، ثم يهود بني قريظة بعد غزوة الأحزاب، والآن نتساءل: كيف تشكلت "الأوطان" في منطقتنا العربية؟
لم تتشكل "الأوطان" في منطقتنا العربية نتيجة تفاعل عناصر "ثقافية وسياسية واجتماعية"، كما حدث في الغرب بل تشكلت نتيجة "قرارات سياسية"، بل "مقايضات سياسية" من قوى خارجية وهي الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الأولى، فمن المعروف أن الأوطان: العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والأردن، تشكلت بعد محادثات بين سايكس وبيكو وزيري خارجية انجلترا وفرنسا غداة الحرب العالمية الأولى، واتفاقهما على تقسيم المنطقة وفق مصالحهما من جهة، ووفق ترتيبات مع أطراف إقليمية كالمسيحيين في لبنان، واليهود في فلسطين من جهة أخرى.
لذلك لم تكن هذه الدول "أوطانا" بل "تقسيمات سياسية" جرت في أجواء مقايضات سياسية دون اعتبار لأية قيم، ودون مراعاة لأية معايير موضوعية عند إقامة هذه الدول، ويمكن أن نقدم مثالا على ذلك بولاية الموصل، فهي أقرب إلى المناخ السوري منها إلى المناخ العراقي، ومع ذلك فقد ألحقت بالعراق لأن الانجليز يريدون البترول الذي فيها، وتم إلحاق دير الزور بسورية مع أنها أقرب إلى المناخ العراقي، وقد ألحقت بسورية تعويضا لها عن الموصل.
الآن: بعد مائة سنة على نشوء هذه الأوطان في سورية والعراق ولبنان والأردن ومصر والسودان والجزائر إلخ ... هل تكونت المواطنة؟ وهل أصبحت قيمة فاعلة ذات وجود في قلوب وعقول سكان هذه البلدان؟ لا لم تتشكل وذلك لان القيادات القومية العربية التي حكمت العالم العربي فشلت في إنشاء روابط جديدة، ليس هذا فحسب بل عملت على تدمير الروابط القديمة، حينما ألغت دور الدين في بناء الأمة، وقررت أن الأمة في منطقتنا العربية تقوم على عنصري اللغة والتاريخ، وقررت محاربة الدين الإسلامي ، واعتبرت أن دوره سلبي في بناء الشخصية العربية. وأنه يغيب العقل والوعي، وأنه يغذي الأوهام والخرافات والخزعبلات، وقد قررت كل ذلك ليس نتيجة دراسة موضوعية للتاريخ الإسلامي بل قررت ذلك قياسا على سلبية الدين المسيحي أثناء عصور الانحطاط الأوروبية، وأن إزاحته كانت سببا أساسيا في نشوء النهضة وقيامها.
إن توجه القيادات القومية العربية في سوريا ومصر والعراق والجزائر إلخ... إلى تدمير الروابط القديمة التي أنشأها الدين الإسلامي، وعجز القيادات القومية عن إنشاء روابط جديدة على مستوى (الأمة – الوطن)، جعلها تلجأ إلى إحياء روابط طائفية أو عشائرية من أجل تحقيق سيطرتها على شعوب المنطقة فاستغل حافظ الأسد الطائفة العلوية من أجل إحكام سيطرته على سورية، واستغل صدام حسين عشيرة تكريت من أجل إحكام سيطرته على العراق، واستغل أنور السادات ومن بعده حسني مبارك عصبية المنوفية من أجل إحكام سيطرتهما على مصر إلخ ...
الخلاصة: إن "المواطنة" مفهوم ذو مضمون ثقافي وسياسي وإجتماعي واقتصادي إلخ ... ولا يعني حب الوطن فقط، وهو مرتبط بتكون (الوطن – الأمة) نتيجة عناصر ثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية ودينية خلال عصور متتالية، وقد فشل الفكر القومي العربي الذي قاد المنطقة خلال المائة سنة الماضية في توليد قيمة "المواطنة" لأنه فشل في تحديد عوامل بناء الأمة، لذلك لجأ إلى الروابط الدنيا من طائفية وقبلية، وعمل على إحيائها من أجل إحكام سيطرته على شعوب المنطقة.