فكرة القانون

فكرة القانون

د.أحمد محمد كنعان

إنَّ اللهَ يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن .

الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه

إن القانون كالمسافر يجب أن يكون مستعداً للغد ، وأن يحمل بذرة التطور في ذاته .

القاضي الأمريكي جاردوزو

لقد برزت فكرة القانون في التاريخ البشري منذ تلك اللحظة التي نشب فيها الصراع المؤلم بين ولدي آدم ، وما تبعه عبر التاريخ البشري من صراعات نتج عنها الكثير من الويلات والمآسي ، وهذا ما دفع أصحاب العقول الراجحة عبر التاريخ للتواضع على بعض الأعراف الأخلاقية بهدف الحد من هذه الكوارث والمآسي ، والوقوف في وجه الأشرار وما ينجم عن أفعالهم من إضرار وتخريب في المجتمع ، وقد كانت هذه الأعراف هي البذرة التي تولدت عنها فيما بعد فكرة القانون .

وعندما نراجع سجلات التاريخ نجد أن أمم الأرض على اختلافها قد تواضعت على الاحتكام إلى نوع أو آخر من القانون ، سواء كان قانوناً سماوياً ، أم قانوناً أرضياً ، لأن الناس وجدوا بالتجربة العملية أنهم في غياب القانون يعجزون عن المحافظة على وجودهم ، بسبب ما ينتاب النفس البشرية من دوافع الخير ونوازع الشر .

والإنسان كما هو مشاهد معلوم مركب معقد من أهواء جامحة ، وغرائز نهمة ، ورغبات لا تكاد ترتوي ، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي "كانط" في كتابه ( فلسفة التاريخ ) إلى القول : إنَّ لدى الإنسانِ مزاجاً غيرَ اجتماعي يدفعُهُ لتوجيهِ كلِّ شيءٍ على هواه !

ولو أن الإنسان ترك على هذه الحال دون قانون يردعه ويحدُّ من غلواء شهواته وغرائزه ونزواته لفسدت الأرض ، كما جاء في محكم التنزيل (( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بعضَهُم ببعضٍ لَفَسَدَتِ الأرضُ )) سورة البقرة 251 . وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الإشارات إلى النوازع البشرية السلبية ، منها قوله تعالى (( إنَّ الإنسانَ لَظَلُومٌ كَفَّار )) سورة إبراهيم 34 ، وقوله تعالى (( إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلوعاً . إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزوعاً . وإذا مَسَّهُ الخيرُ مَنوعاً )) سورة المعارج 19 ـ 21 ، وقوله تعالى (( وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شَيئاً جَدَلاً )) سورة الكهف 54 ، وقوله تعالى : (( كَلا إنَّ الإنسانَ لَيَطْغى أنْ رآهُ اسْتَغْنَى )) سورة العلق 6 ، وأمثال هذا كثير في القرآن الكريم .

كما أن الجنس البشري ، حسب تعبير الفيلسوف "هنري لويس برجسون" في كتابه "السلطة والسياسة" يقع من تطور المخلوقات الحية في نهاية خط تطور القوة العاقلة ، لا في نهاية خط تطور الغريزة وهذا يعني أن للغرائز سلطاناً كبيراً على تصرفات الإنسان وتفكيره إلى الحد الذي يجعل هذه الغرائز في كثير من الأحيان تتجاوز حكمة العقل ، وتفرض سلطانها عليه ، ومن ثم فإن الإنسان لو ترك يتصرف وفق ما يمليه عليه هواه وغرائزه لعاث في الأرض فساداً ، ومن هنا تظهر أهمية وجود القوانين في حياة الناس ، لأن القانون يضطر الإنسان اضطراراً ليقدم عقله على غرائزه ، خوفاً من سطوة القانون وعقوبته !

ويعتقد أصحاب المذهب الطبيعي أن الجنس البشري مرَّ بمرحلة طويلة من تاريخه لم يكن فيها قانون يحدُّ من هذه النزعات ، فكان كل إنسان يتصرف بما تمليه عليه الظروف في سبيل حماية نفسه وردع الآخرين عن الاعتداء عليه ، وبطبيعة الحال لم تكن تلك التصرفات خاضعة لمعايير الحق والباطل بالمفهوم الديني ، بل كانت ردود أفعال هدفها الدفاع عن النفس ، وفي هذا يقول الفيلسوف الإنكليزي جون لوك : ( ولكي يرتدع كل امرئ عن التعدي على حقوق الآخرين ، أو إيقاع الضرر بهم ، وتحترم السنة الطبيعية التي ترمي إلى إقرار السلام وبقاء النوع البشري ، فقد ترك أمر تنفيذ السنة الطبيعية هذه ، إبان ذلك الطور ، لكل امرئ بمفرده ، فكان له الحقُّ بمعاقبة الخارجين عن تلك السنة إلى حد يحول دون خرقها ، إذ لو لم يكن ثمة من يقوم على تنفيذ هذه السنة الطبيعية بحماية الأبرياء وردع العادين لكانت تلك السنة عبثاً ، شيمة سائر السنن التي تمتُّ إلى شؤون البشر في هذا العالم ، وإذا كان لأي كان في الطور الطبيعي أن يعاقب مقترف الإثم فلكل امرئ مثل هذا الحق ) !

ونحن بدورنا نعتقد أن هذه الفكرة ليست دقيقة تماماً من الوجهة التاريخية ، فنحن نعلم أن الشرائع السماوية قد رافقت البشرية من اللحظة الأولى التي بدأ فيها تاريخ الإنسان فوق هذه الأرض ، فقد كانت الشرائع السماوية تتنزل على الناس تباعاً بالأحكام ( أو القوانين ) التي تتطلبها أحوالهم وما يطرأ عليها من تطورات وما يعتريها من مشكلات ، وتبين لهم العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية لكل جُرْم ، أما "القوانين الوضعية" التي أنتجها الفكر البشري فيبدو أنها تأخرت كثيراً في الظهور ، ومع هذا فإننا نرجح أن هذه القوانين لم تكن نتاج إبداعات فكرية بشرية خالصة بل كانت نتاج تلك التراكمات القانونية التي اقتبسها البشر من الرسالات السماوية السابقة ، ومما تواضعوا عليه من قيم ومفاهيم أخلاقية عبر التاريخ ، من خلال تجربة الخطأ والصواب ، والجريمة والعقاب ، وهكذا راحت تتبلور أشكال مختلفة من القوانين الوضعية حتى أصبح لدينا اليوم ذخيرة غنية من القوانين التي تحاول تنظم كل شيء .

والملاحظة الأساسية في هذا السياق أن القوانين البشرية في العصور المتأخرة باتت تقترب بعضها من بعض أكثر فأكثر ، حتى أوشكنا على الوصول إلى قانون عالمي جامع يضع الجميع تحت طائلة أحكامه ، وتطرح علينا هذه النتيجة سؤالاً في غاية الحساسية ، إلا وهو : هل يمكن لهذا القانون الوضعي أن يكون بديلاً عن قانون السماء ؟ نترك الجواب إلى وقفة تالية .