بريق الفلسفة ..!

صالح خريسات

 تعاني الفلسفة في الجامعات الأردنية، اتهامها بالعجز، والكسل، وعدم القدرة على مواجهة المشكلات. فتم الإستغناء عن خدماتها، في كثير من جوانب التعليم، وكأنها لم تعد تصلح للحياة. فانزوت، واحتضنت معها بريق الفكر، وهيبة التدريس، ووقار الحكمة، وكل أشكال الرقي المعرفي. فلم نعد نشهد مجادلات ومطارحات فكرية، تستحق الاهتمام، وتلاشى من أروقة الجامعات، شبح الشيخ، مدرس الفلسفة، ذلك الرجل الوقور، العالي الجبين، الرصين الحديث، الجدي المناقشة، القوي الحجة، صاحب التأملات البعيدة، والفكر العميق، الذي يجله الناس ويقدرونه، ويحترمونه، على الرغم من شخصيته المعقدة.

 فمن المؤسف أن تغفل الجامعات، عن أهمية درس الفلسفة، فهي مرتبطة بالعلم المهذب، وبالسلوك الأخلاقي الرفيع، وبالثقافة الأصيلة، من حيث ابتداؤها وانتهاؤها، ولا تقل أهمية عن الدين، الذي هو جوهر الفكر والحكمة. فمن لم يكن متفلسفًا، فليس متدينًا، ومن لم يكن متدينًا، فليس متفلسفًا.

 وإن حاجاتنا إلى الفلسفة، تنبع من حاجاتنا إلى التنمية السياسية والاجتماعية، ومواجهة الأزمات الفكرية، والروحية، والاقتصادية، وترسيخ قاعدة حرية الفكر، والاعتقاد، والتدين، وتعميق مفاهيم الحرية، والديمقراطية، والحوار البناء، الذي تنهض به الشعوب وترتقي.

 وليس ذنب الفلسفة، وجود هذا الزمن المضطرب، والمعقد، وليس ذنبها أن تقوم حياة الناس على المتناقضات. بل إن هذه الاضطرابات، والأزمات، هي مادة الفلسفة، وتستطيع أن تجد حلولاً لها. هذا ما أفادته الفلسفة في حضارات الأمم والشعوب السابقة، وحضارات الهند والصين، ثم العصور الإسلامية الزاهرة.

 وليست الفلسفة نوعًا من التسلية، ومن الحكمة أن نضعها في المكان اللائق بها، فالتاريخ البشري، هو تاريخ الفلسفة، ابتداءً من سقراط، وانتهاءً بآخر إنسان يتفلسف على وجه الأرض.

 وكلما ذكرت الفلسفة، يتذكر المرء طه حسين، وزكي نجيب محمود، والعقاد، وأحمد لطفي السيد، والزيات، وأحمد بهاء الدين، واليازجي، وأحمد أمين، والشدياق، وجبران خليل جبران، والشيخ علي عبد الرازق، والأفغاني، ومحمد عبده،..ويتذكر معهم المجادلات الرفيعة، والتحليلات الفنية البارعة، والتجديدات التي تكشف عن عبقرية غير عادية،..

 إن حياة الإنسان تطورية حركية، تنمو نحو التقدم والرقي، والفرق بين الإنسان البدائي، والإنسان المتحضر، إنما يكمن في سلوكه، في أسلوبه في الحياة، في منهجيته في التفكير، أي أن هذا الفرق إنما يتمثل في تطور عقليته، هذا التطور الذي تختصره الفلسفة، منذ الأطوار البدائية الأولى للفكر البشري.

 إن تحرير الفكر، قد وضع أوروبا في مكان الذروة، من القوة، والمال، ونفوذ السلطان، والعرفان. وإننا يجب أن لا نظلم الفلسفة، فيما تقدمه لنا من فوائد نظرية، مقارنة فيما يقدمه المخترعون. فأصحاب المذاهب، والفلاسفة، والفلسفة شكل من أشكال التطور العقلي، وغيرهم طفريون، يواتيهم الحظ، ويوجههم القدر، أكثر مما يوجههم الفكر، أو التأمل. وفي تصوري أن تخلي الجامعات، والمعاهد الفكرية، عن درس الفلسفة، إنما هي حالة من التردي الفكري، لا بد من تداركها،..