دعوة للعمل الجماعي ولبناء الأحزاب
الحزب السياسي ...
تاريخ .. ودور .. وفاعلية ..
زهير سالم*
اعتُبرت الأحزاب والتكتلات بصيغها المختلفة تعبيرا عن حالة من حالات الاجتماع البشري . نظر إليها الكثيرون على أنها إحدى ظواهر الحياة الإنسانية العامة . وككل الظواهر العامة اختلف الناس في تحديد موقفهم منها سلبا أو إيجابا على أساس رصدهم لانعكاساتها على حياة الناس . نظر إليها البعض على أنها مدخل للتفرقة والتمزيق أو الاستعلاء والغلبة . واعتبروها تعبيرا عن صيغة من صيغ العصبية التي هي دليل انحلال الأمة . ورآها آخرون مدخلا للتثقيف والتعليم والتسديد والتصويب والحشد والاختيار وحسن التمثيل ، وأنها سبيل الفرد للتعبير عن رأيه ولمشاركته في القرار العام لوطنه . وانه لولا الأحزاب وتكتلاتها الكبرى لما استطاع الأفراد ولا الجماعات الصغيرة إيصال أصواتهم إلى حيث تكون مؤثرة وفاعلة .
وفي السياقين ورد ذكر الحزب والأحزاب في القرآن الكريم حيث ذكر ت في سياق على سبيل المدح (( أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) . وذكر في سياق آخر على سبيل الذم (( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ... )) .
وعندما انطلقت الثورة الفرنسية كان رجالها يتفاخر كلٌ منهم أنه لا ينتمي إلى حزب . وتبدو هذه النظرة السلبية للسياسي الحزبي هي السائدة في مجتمعاتنا حتى اليوم !!
وكذلك كان مؤسسو الولايات المتحدة ينظرون إلى الأحزاب نظرة ريبة . وقد سبق لجورج واشنطن أن حذر مواطنيه من مغبة الانقسامات التي قد تتعرض لها الأمة بسبب الأحزاب . ولكننا لا نكاد نصل إلى الرئيس الثالث للولايات المتحدة سنة 1800 حتى نراه يحتل منصبه نتيجة تنافس حزبي .
بالمعيار السلبي نفسه نظر الإمام الشهيد حسن البنا للحياة الحزبية المصرية في النصف الأول من القرن العشرين . ورفض الحياة الحزبية . وحتى الآن لم تعتبر جماعة الإخوان المسلمين نفسها حزبا سياسيا ، بل تمسكت بوصفها ( جماعة دعوية ) تمارس كل الأنشطة الإسلامية . إلا أن نظرتها للحياة الحزبية في كل الأقطار قد تطورت مع تطور الواقع السياسي . فاعترفت بالحياة السياسية الحزبية . وبدأت تنحو منحى تشكيل أحزاب تعبر عن برنامجها السياسي في أكثر من قطر
كانت بدايات الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة وفرنسة بشكل خاص مع بدايات القرن التاسع عشر . وقد ظهرت الأحزاب السياسية وازدهرت مع ظهور وازدهار حق الاقتراع العام ؛ حين أصبح صوت المواطن الفرد – مهما كان شأنه – جزء من القرار الوطني العام يحرص كل سياسي على كسبه وتوظيفه . وأخذت النظرة للحزب السياسي تأخذ منحى أكثر إيجابية .
وبدأنا نقرأ مثل قول ( ماكس ويبر ) : إن هذه التنظيمات الجديدة وليدة الديمقراطية وعلى الأخص الاقتراع العام . لقد تطلب الاقتراع العام صيغة من تنظيم الجماهير وتعبئتها وحشدها خلف شخص أو خلف فكرة .
أو قول ايزمن : إنه لا حرية ولا ديمقراطية بدون أحزاب . وأصبحت هذه النظرية على المدى جزء من تفكير رجال القانون الدستوري العام .
إن جزء من المشكلة التي تعاني منها المعارضة السورية اليوم هو غياب الحياة الحزبية المزدهرة عن سورية . إن الشكوى المريرة التي نسمعها من الأفراد ضد الجماعات المنظمة لا تقوم على أساس أن المنظمين هم الأشرار كما يحاول أن يصور البعض ؛ إنما تقوم على خلفية عجز أفراد مشتتين عن تنظيم أنفسهم وتحقيق إراداتهم في وقت وجيز .
وما أن احتلت الأحزاب السياسية مشروعيتها في هيكل الحياة السياسية العامة حتى بدأت تتلاشى النظرة السلبية إليها على الصعيد النظري . وبدأنا نسمع عن أشكال من التنظيمات المجتمعية في أطر أوسع مما يسمى الحزب السياسي فظهرت النقابات والجماعات الصغيرة محدودة الأهداف والتنظيمات بخلفياتها الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية وقوى الضغط المختلفة التي انتزعت لها عنوانا أكثر شمولا ( المجتمع المدني ) الذي تعتبر الأحزاب السياسية شعبة أساسية من شعبه المتكاثرة ..
وأصبحت النظرة إلى لأحزاب السياسية ولمؤسسات المجتمع المدني المختلفة أكثر إيجابية . ورحنا نقرأ عبارات تمجد الحياة الحزبية وتعتبر الأحزاب السياسية مدارس تثقيف المجتمع . كما تعتبر مؤسسات المجتمع المدني مؤسسات للخدمة العامة . وركائز للحد من سطوة السلطة أو لمساعدتها على تأدية دورها . وأن دور الحزب المعارض أن يبرز الوجه الآخر للحقيقة على قاعدة وبضدها تتميز الأشياء ..
دعوة إلى تغيير النظرة والموقف
في سياق الربيع العربي والثورة العربية الحقيقية وإعادة التأسيس لبناء المجتمع والدولة في قطرنا وفي عالمنا نحن مطالبون – كجماهير وطنية وعربية – إلى مراجعة رشيدة لنظرتنا ولموقفنا من كل أشكال الحياة الجماعية المنظمة على خلفياتها المختلفة ..
لقد عملت عوامل عديدة على تشويه فكرة الحياة الحزبية والمؤسسات الجماعية . وبدلا من أن يستحق الإنسان الملتزم في مشروع وطني عام المزيد من الاحترام أصبح موضع غمز ولمز وانتقاص . ولقد كان من أهم العوامل التي شاركت في التأسيس للموقف السلبي من العمل الجماعي والحزبي السياق العالمي التاريخي الذي أشرنا إلى شذرات منه ، ومنها بعض الموروث العام عن سلبيات الحياة الحزبية والتي حاول البعض أن يلقي عليها ثوبا شرعيا من الحل والحرمة في خدمة مشروع حكام مستبدين ، ومنها ثالثا وجود أحزاب سلطوية نفعية وفاسدة ألقت بظلالها على فكرة الحزب والتحزب بشكل عام . ومنها أخيرا موقف استبدادي – أمني – قاهر جعل الانتماء الحزبي في عالمنا غراما مضاعفا يلقي على صاحبه الوانا من العنت الجسدي والفكري والاقتصادي والاجتماعي ..كل هذه العوامل جعلت المواطن الفرد يرغب عن الانخراط في أي شكل من أشكال العمل الجماعي أو الحزبي المثمر مما كان له أسوأ الانعكاسات على واقعنا الوطني في كل أبعاده ...
إن جزء من مشاركتنا الواعية في صناعة ربيعنا العربي وربيعنا الوطني يجب أن تدفعنا دفعا حثيثا للاشتراك في بنى الحياة الجماعية المختلفة . المطلوب من أصحاب الطاقات والقدرات أن يسارعوا إلى الإعلان عن مشروعات خيرة مبصرة تحشد طاقات المواطنين وتعبئها وتوظفها على المحاور التي يؤمنون بها.دعوتي هنا ليست لحزب ولا لفئة بل هي دعوة مفتوحة للانخراط كل منا حسبما يعتقد في الصف الوطني المتراص الذي يعينه على تقديم ما عنده من خير ومن عطاء .
الحزب السياسي بالنسبة للمسلم هو الإطار الجامع الذي يجعله قادرا على الوفاء باستحقاق قوله تعالى : (( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.))
شعار واحد رفعه القرآن الكريم أذكر به في هذا السياق : اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ...
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية