العدوان على غزة والهلوسات الإعلامية

سري سمور/ جنين ـ فلسطين المحتلة

[email protected]

[email protected]

تقول القصة أن أحد خريجي احدى كليات الإعلام والصحافة تقدم بطلب للحصول على وظيفة في مجال دراسته، وفي المقابلة (الامتحان) مع الصحيفة التي تقدم بطلب التوظيف إليها سأله الممتحن: كيف يُمكنك أن تُروّج أو تنشر خبراً ما دون مصدر موثوق أو مؤكد؟ وعلى الفور أجاب طالب الوظيفة: صرّح مصدر مسؤول/موثوق طلب عدم الكشف عن اسمه بأن... فقال له الممتحن: أحسنت وأبشر بالوظيفة!

العبرة من هذه القصة الساخرة معروفة، وإضافة إلى الأخبار الكاذبة المضللة جاءنا ما يُسمى بـ «التحليل السياسي» وأقصد وأتعمّد استخدام «ما يُسمى» ووضع المصطلح بين قوسين بسبب ما نراه من فوضى وفائض الحاصلين على هذا اللقب أو المسمّى «محلل سياسي» ولا أدري ما هي المعايير أو الأُسس المتبعة لمنح هذا اللقب!

وقبل حوالي شهرين دُعيت إلى حوار مع احدى القنوات الفضائية حول شأن سياسي فلسطيني فسألت مقدم البرنامج عن الصفة التي قدمني بها والمكتوبة على الشاشة فقال: كاتب ومحلل سياسي، فطلبت منه برجاء حازم أن يحذف عبارة "المحلل السياسي" وأفهمته في عُجالة عن النفور الذي يعتريني من كثرة "المحللين" و"الخبراء" المزعومين.

ولو عُدت بالكلمة وقارنتها بمفهوم "التحليل" كوني أساساً خريج كلية علوم؛ لوجدت أن الكلمـة تدل على التفكيك المنهجي والمنطقيـة والتسـلسـل بعيداً عن الرغائب والأهواء والأمنيات، وأعلم أن "التحليل السياسي" يختلف عن المسائل الرياضية والمركبات الكيميائية وأنه بلا شك يتأثر بالخلفية الفكرية والتجربة الشخصية والانتماء الحزبي ـ إن وجد ـ لصاحبه؛ قد يكون هذا مقبولاً إلى حد ما إذا كان الأمر مقتصراً على رتوش أو بقع صغيرة على الصفحة، أما أن يكون "التحليل" المزعوم وفق مثال السخرية الذي نُعبر عنه بالخليط «سمك، لبن، تمر هندي» فتلك لعمري هي الطامة الكبرى، والتضليل المستفز، والأكثر استفزازاً أن بعض حملة هذا الخليط العجيب تفتح لهم صفحات الجرائد، وقنوات البث الفضائي... فمع أن بضاعتهم فاسدة إلا أنها ليست كاسدة!

وكل العتب على الكاتب أو المدوّن أو «المحلل» أو «المغرّد والمفسبك» الفلسطيني قبل غيره؛ فمنذ زمن نجد أن ثمة كتبة من دول عربية وفي صحف ومجلات عربية ـ مع الأسف ـ يُقدمون آراء وتحليلات تنضح حقداً على شعبنا وتستهزئ بمقاومته، وتُبرئ المحتل من دمائه، وقد سبق وأن كتبت قبل عام مهاجماً بعضهم؛ ولكن ماذا عمن هو فلسطيني سواء استخدم اسمه وصفته وصورته متبعاً أسلوب «الله يحييك ويخزي ابن عمك!» أو تستر واختبأ وراء اسم مستعار ليبث هلوساته وسمومه في الفضاء الإلكتروني؟ إن العتب عليه أكبر واللوم والمسؤولية أعظم!

وبعض، بل كثير، مما تُسمى آراء حرّة أو "تحليلات سياسية" تُشبه حالة نراها عند فقدان العقل لدى إنسان ما تعاطى مخدراً أو مسكراً... ولا مجال لسرد وشرح وتفصيل كل شيء؛ ولكن ما القول والرأي المبني على اعتبار الصحافة العبرية وما تنشره مرجعاً معتمداً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومصدراً صادقا وما دونه الكذب!!؟؟ ثم يرمى ما في هذه الصحافة إلى الجمهور بانتقائية وتوظيف سياسي مغرض دون تعليق مكذّب أو ردّ من الناقل على الأباطيل... فكيف يا ترى يستقبل البعض مقولة الصحافة الإسرائيلية والغربية المتصهينة بأن (شاليط) كان «بوليصة التأمين» على حياة الشهيد أحمد الجعبري، ونحن نعلم أن الجعبري وإخوته طلاّب شهادة ما لم يتحقق النصر المبين؟ أي تشويه للفكر والعقل ببث هذه السموم بدعوى الحيادية يا كتبة ويا "محللين" ويا مغرّدين ويا ناقلي الأخبار وناشريها؟

وأما لو تحدثنا عن زيارة أمير قطر إلى قطاع غزة فقد كُتب عنها، وقيل فيها ما لو أردنا طباعته في بحث لكان مجلدات بآلاف الصفحات من مقالات و"تحليلات" واستقراءات وبالطبع بكائيات مطوّلة، مع أن الأمر بسيط جداً كما وضح د.غازي حمد في مقال له عقب الزيارة؛ ومع ذلك فإننا لو نظرنا إلى "التحليلات" لوجدناها قبل وأثناء وبُعيد الزيارة تركز على أمور وتتمحور حول أفكار انقلبت تماماً بعد الحرب على غزة... فقد قيل بأن أمير قطر جاء للضغط على إسماعيل هنية كي يُبقي خالد مشعل رئيساً للمكتب السياسي "لحماس"، وأن الزيارة ودفع مئات ملايين الدولارات هدفها شراء المقاومة بأموال النفط والغاز، وطبعاً سمعنا معزوفة السيلية والعديد التي ستنتقل إلى شواطئ غزة، وشرّق البعض وغرّب شارحاً عن المحور القطري ـ التركي ـ المصري مقابل الإيراني... سبحان الله العظيم... وفجأة وبعد اغتيال الجعبريتغيّرت التعليقات الخنفشارية المذكورة ـ (الخنفشارية هي إدعاء معرفة كل شيء كذباً) ـ إلى حالة هلوسة وهذيان صحافي وإعلامي في تناول زيارة استمرت سويعات معدودة كلها بث حي ومباشر؛ فتارة يقولون بأن السيارة التي اغتيل بها الشهيد الجعبري هدية من أمير قطر وتحمل جهازاً أرشد الطيران إلى مكانه، وتارة يقولون بأن الأمير ورفاقه زرعوا شرائح تُرشد الطيران إلى مواقع المقاومة، وتارة أخرى يتهمون قناة الجزيرة... ولا أدري هل كلمة "هلوسة" تكفي لوصف هذا الهذيان الأخرق أم لا!؟

والأدهى والأمر هو تناول المقاومة والعدوان على غزة من زاوية صراع محاور إقليمية، تُمثلها أقطاب في حركة "حماس"، أحد الأقطاب تابع للدوحة والقطب الآخر تابع لطهران؛ وبكل صراحة أقول لكل من يطرح مثل هذه الآراء إذا كان يعتبر نفسه بريئا من صفة "الهلوسة الإعلامية والصحافية": إنك ترتكب خطايا تُقارب الجرائم بحق أبناء شعبك، ولا تحسبنّ أنك تمس تنظيماً بعينه أو شخصاً بذاته، لأنك ببث مثل هذه الأفكار تُعطي نظرة سيئة عن شعبك، بل قد يقول أحد الكتبة العرب الذين نُهاجمهم: إذا كانوا هم يقولون عن بعضهم البعض كذا وكذا فلمَ تلومونني؟! ومن الخطايا التي تقترفها بعلم أو بدون علم:

1 ـ تبرئـة الاحتلال وجيشـه من الجرائم التي يرتكبها بحق شـعبنا، عبر إظهار الأمر على أنـه "صراع" إيراني ـ قطري بأدوات فلسـطينيـة... وطوال الوقت سـعى الصهاينـة بكل ماكينتهم الدعائيـة والدبلوماسـيـة إلى تصوير المشـكلـة على أنها بين هذه الدولـة وتلك وهذا التنظيم أو ذاك ولا تكمن في الاحتلال والاسـتيطان والعدوان... فكيف يقبل أي فلسـطيني أن يُعطي الاحتلال هذه الهديـة!؟

2 ـ إظهار أن الشـعب الفلسـطيني، أو قطاعاً واسـعاً منـه، ليسـوا سـوى مجموعـة من المرتزقـة والمأجورين لهذه الدولـة أو تلك ويتبعون هذا المحور الإقليمي أو ذاك، وليسـوا طلاباً للحريـة والاسـتقلال والكرامـة في وطنهم المحتل!

3 ـ التسبب بضرر قد يتعرض له بعض من أبناء شعبنا المنتشرين بكل بقاع الأرض إذا صدّق من حولهم في مكان ما أنهم يتبعون دولة بينها وبين دولتهم عداء، ونحن دوماً نسعى أن نُثبت أنه لا علاقة لنا بأي صراعات أو نزاعات بين أي دولة وأخرى.

4 ـ زعزعة ثقة شريحة من أبناء الشعب بالمقاومة لأنهم سيتصورون أنها صراع إقليمي وليست وسيلة فعّالة لدحر الاحتلال عن وطنهم المحتل.

أقول لكل من يكتب أو يتكلم أن يتقِ الله في شعبه وأن يتعلم من أعدائه وهو يراهم يتوحدون على العدوان والاستيطان، سياسياً وعسكرياً وإعلامياً... وأنا أتفهم الخصومة لكن لا يمكن أن أتفهم الفجور فيها بأي حال من الأحوال، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يطلب منا أن نعدل حتى على من بيننا وبينهم خصومة أو عداء وكراهية (((ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى))) فكيف يتحرى البعض الكذب بسبب خلاف أو بغض شخصي أو خلاف سياسي، فلنتحرّى الصدق ولنبتعد عن الهلوسة وأختم بحديث رواه ابن مسعود مرفوعاً: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وإن الرجل ليكذبُ حتى يُكتب عند الله كذاباً) ـ متفق عليه ـ. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم...

اللهم ألهمنا الصدق فيما نقول ونكتب وننشر وأن نبتعد عن الهلوسة الإعلامية والصحافية.