إلى الواقع...
مروة هاشم حرب
قلت لي في رسالتك الأخيرة الأثيرة: إنني سأموت في بطء خرافي وإنك سوف تتركني أبكي على أيام طفولتنا الخجلى التي توارت تحت ظلال زيتوننا تخاطب أزقة أبوابنا المقوسة البيضاء.
سيــدي...
أحلم أنك موطني، وأنك روايتي التي ما زالت تكتبني، وأحلم أنك الجمال، لكني بدأت أوقن أن الأشياء الجميلة التي نشتاقها لم تعد بيننا. ها أنت قد عدت تؤذيني، وهأنذا ما زلت أحتمل، هأنذا أقرؤك من جديد، وتقرؤني أنت فلا جديد، مجرم أنت، بحر من الظلام الدامس أنت!
آه يا بحر الغموض ويا غموض الأيام، إجرامك حكايةٌ ستظل الأجيال ترويها، ستنقشها حجرا حجرا في جدرانك الكهلى ككهولة عوالم البشر.
هنا... أنا وأنت والألم، أنا وأنت وهم. هم من تعذبهم ببطء ولا تدري أنهم من على البطء ينتصرون! سُمُّك المر يلدغهم ولا تدري بأن اللدغ لم يعد يجدي.
هم أبناؤك يا سيدي القاسي، ولم أر كقسوة قلبك قلبا بالبراكين يشتعل، تجمل لهم الرحيل ألا يكفيك من رحلوا؟! تدندن تحت وقع السيف كأن السيف كاللعبِ، تُأرجِح أرضنا الكهلى كأن الأرض كالطفل، وتنسى أنها كهلى، وتنسى أنها ثكلى، وتجثم فوق يَنبوع الأسى، تميت الوهم والغزلَ، وتنسى أن زيتون الجليل يداوي جرحه الدَّمِلَ، وتملأ بين كفيك براءة عالَم ثَمِل، وتنسى أننا طفلا بلحن واحد نصل، وتُزهق روحها أما، وتصفع ابنها النَّهمَ، وترمي قبة الأقصى بنار الجمر تستعر، وتنسى أننا يوما تناجينا وصلينا، تخيلنا مساجدنا كقبة مسجد الأقصى، وسلَّمْنا، وبارَكَنَا إلهُ الكون خالقُنا، وأنت اليوم تتخلى وتنسى الوجد والشوق.
تحاصرني بجدرانك، تهددني بنيرانك، وتنسى أنني نخل...مخلوق له أصل له جذر له هدف.
وتنسى أنني القمح، وتنسى أنني البَذْر.
أنا جذر يناجي هذه الأرض منذ تكوَّن الزمنُ، سطورك في رسالتك الأخيرة تغلفها أعاصير الرياح، تحطم وطني الأمَّ.
وتنسى أنك الخجل، وتنسى أنني أبكي على أيام عزتنا، وتنسى العزّ َوالكرمَ، وتنسى أن (جولانا) ينادي أينك عمر؟! وتفرك جُرحَنا الدامي بملح ليس يندثر، تُوسوِس في صدور الناس لتجمع نفط قريتنا، وتلقي الدلو في الوادي، ويأتي الذئب يأخذه، تزاول مهنة المحتال والقتال والوسواس والجاسوس؛ لتجمع قيمة عظمى، تشتت نفسك الغدَّارةَ بشيء لست أعرفه، تحاول جاهدا قلعي ولكني كما القضبان تنصهر، تناضل نفسي الحرةُ، ونفس الحر تلتهب، تكافح روحُنا المجروحةُ لترجع عز ماضينا، تجاهد نفسُنا العربية لترجع واقعا سُلب...ونمضي في روابينا نعيد البسمة الحيرى. لعلك أنت يا واقعُ، تعود لوضعك الرائع!