في شارع الوحدة.. دخل الجنة!!
مخلص برزق
غزة تنبض بالحياة كما لم تفعل ذلك من قبل، زحام لم أعهده فيها سابقاً لكنه هذه المرة زحام محبب للنفس و"عجقة" تطرب الروح!! ولا غرابة.. فقد كدت أسمعه صوتاً من أعماق نفسي ينادي على كل أهل غزة أن اخرجوا، اخرجوا جميعاً في حنايا الأرض التي أحبتكم واحتضنتكم وسالت دماء أحبائكم عليها.. اخرجوا لتكتحل أعيننا برؤيتكم وقد تطهرتم بغسيل الرعب والخوف والترقب ممزوجاً بعطر الصبر والثبات والصمود والاستسلام للواحد الديان.. اخرجوا أهل غزة، فقد كسبتم هذه الجولة وحسمت وبكل اقتدار لكم، وانحنى العالم كله إكباراً وإجلالاً وافتخاراً بكم.. لقد مرغتم أنوفاً معقوفة كريهة بالوحل، وشفيتم الصدور من أشباه بشر أعماهم غرورهم وأطغاهم حلم الله عليهم، فظلموا واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم وعلوا علواً كبيراً.. اخرجوا لتغيظوهم بحياتكم وقد أرادوا أن يسلبوكم إياها، فالعربي الجيد عندهم هو العربي الميت.. وأنتم إنما ازددتم حياة إلى حياتكم، وأما هم فقد ماتوا هماً وغماً وكمداً.
سرني وأسعدني أني شهدت ذلك الانتصار في غزة العزة وأني شاركت أهلها فرحتهم به، ولما خرجت إلى طرقات غزة بعد أيام من الهجر القسري لها شعرت بأنني قد حظيت بتجربة عظيمة جداً يغبطنا عليها الكثير من إخواننا خلف الحدود، شققت طريقي بين تلك الوجوه "الغزية" التي خلتها تطفح بشراً وسروراً وافتخاراً، وكأني بها تقول لك حيثما قابلتها: نعم نحن الذين فعلنا باليهود ما لم يجرؤ على فعله أحد في العالم كله دهراً طويلاً، نحن الذين ثرنا عليهم ولم نخش إجرامهم وطغيانهم وبغيهم.. نحن الذين لم يذلوا ولم يطأطئوا رؤوسهم لهم أبداً كما يستسهل العالم الذي يدّعي التحضر والرقي فعله لمصالح دنيئة، وأهداف خسيسة، فنرى زعماءه يسقطون في دركات سحيقة من النفاق القميء مع كل جولة انتخابية في ما يسمى بالدول العظمى.
كانت الأقدار تسوقني سوقاً لتلك البقعة دون تخطيط مني أبداً.. كان هدفي الوصول فقط إلى برج "الشوا وحصري" لمقابلة أحد العاملين فيه، ولم أكن أعلم مسبقاً أنه يطل على شارع الوحدة الموازي لشارع عمر المختار، وكل ما كنت أفعله هو تتبع خطوات ولدي الذي كان رفيق دربي ودليلي الأمين..
لا أدري ما الذي أوحى لي بالسؤال عن مكان ارتقاء حبيباي الشهيدين أحمد ومحمد المحمودين في العلا رحمهما الله، ولله درهما فكل ما في أسمائهما يوحي بالحمد ويذكِّر به!! فأحمد هو أبو محمد، ومحمد هو أبو حامد!! حمد في حمد في حمد!! فأنّى لمن قتل أحمد أبو محمد الجعبري ومحمد أبو حامد الهمص أن يكتب الله له النصر والظفر؟! أم كيف يهزم شعب أنجبهما وسار على خطاهما التي تبعا بها خطوات النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الإعداد والجهاد والاستشهاد؟؟
كان سؤالي له في تلك اللحظة التي كنا ندلف فيها من شارع عمر المختار إلى شارع خالد بن الوليد المؤدي إلى شارع الوحدة، وبكل عفوية أجابني إنهما استشهدا في شارع الوحدة!!
اقشعر جسدي وازداد خفقان قلبي فقلت له على الفور: يا إلهي، نحن إذن نقترب من المكان الذي صعدت منه تلك الأرواح الطاهرة إلى بارئها.. وابتدأت أعراس الشهادة في الأرض والسماء لهما.
ومن يمر بشارع خالد بن الوليد يعرف أن محدّب بطريقة واضحة جلية حتى أنك بالكاد ترى شارع الوحدة إلا إذا شارفت على نهايته، أما أنا فلم أكن أتوقع رؤية شيء غير عادي، فغزة تتقن فن الحياة والعضّ على الجراح حتى لكأنها بتعافيها السريع من ندوب جراحها لم تصب بما لا تقوى على حمله جبال رواس.
لم أكد أتم عبارتي تلك حتى تسمّرت قدماي أمام أول مشهد وقعت عيناي عليه في شارع الوحدة، ولم أملك إلا أن ألفت انتباه ولدي إليه ليكون شاهداً على ما رأيت!! فما رأيته كان كفيلاً بأن ينقلك إلى "هناك"..
و"هناك" هذه لها قصة أخرى أراد صاحبها أن تكون سراً بينه وبين ربه، ولكنه لم يكن من النوع الذي يحسن كتم ذلك النوع من الأسرار رغم براعته في مجال الأمن، فقد فضحه تعلقه الشديد ب"هناك" حتى عرف كل من التقاه أن "هناك"، والذي اختاره مكاناً لإقامته - في معرض تعريفه بنفسه كمشرف في "شبكة فلسطين للحوار" - ليس سوى "الجنة" التي تاقت نفسه للإقامة فيها مع أخيه "وحيد" الذي سبقه إليها شهيداً وحطت رحاله فيها (نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً)..
كنت أستحضر صورة حبيبي وأخي وصديقي الشهيد البطل القسامي محمد الهمص (أبو حامد) وأنا أتمتم لولدي عن موضع صعود روحه الطاهرة حتى وقعت عيناي على عبارة "دخل الجنة" مطبوعة على جدار مطل على شارع الوحدة..
لم أبالي كثيراً بكونها كانت جزءاً من حديث اختفت بعض عباراته عن ناظري خلف جذع شجرة فقد شعرت بأن هاتين الكلمتين "دخل الجنة" كانتا رسالة موجهة أصابت هدفها بشكل مباشر، ومن قبل ما كنت قد رأيته صبيحة انتصار حجارة السجيل على عامود الخيبة والخذلان.
رأيت أبا حامد في منامي وقد قعد وظهره للجدار وعلى وجهه قسمات البشر والحبور وعلى رأسه وشعره علامات الاغتسال، فأخذت أقرص خديه وأقبله مهنئاً له بعرسه دون أن يخطر ببالي خاطر الشهادة وأنا في منامي ذلك.
أخذت أسأله عن شعوره، وعن أبنائه وأنا أربت على خاصرتيه، وهو يرد بكل نشوة وراحة بال، ثم استفقت من نومي على حقيقة أنني كنت أحلم وأنني غفلت عن تهنئته بالشهادة بدلاً من تهنئته بالزواج والفرح!!
وقبل أن أغادر تلك البقعة، امتشقت جوالي ووثقت ما رأيت بالصور.. ثم بدا لي أن أفتح صندوق الرسائل المحفوظة فيه ومن بينها مجموعة لا بأس بها وصلتني منه على مدى تلك السنوات الجميلة التي عرفته فيها.. كان من بينها رسالة بتاريخ 3/10/2010 هذا نصها:
إخواني، إن أبدانكم هذه ليس لها أثمان إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها. دعواتك
وأخرى فيها:
"في الدنيا يعرف المرء معاني التعب والنصب والكد والشقاء، وهذه الكلمات لا وجود لها في قاموس الجنة حيث الراحة الأبدية. دعواتك أخي الحبيب.
تلك الرسالة على الجدار كانت الرد الأبلغ على رسائله المعطرة بأريج التضحية والفداء، العبقة بريح الجنة.. وواهاً لريح الجنة فقد هبت من قبل شارع الوحدة في غزة الجهاد والاستشهاد.