نظرية المجتمع الإيماني 1

نظرية المجتمع الإيماني 1

مفاهيم عامة*

علي الإبراهيمي

[email protected]

( تعريف )

هي عملية تواصل رسالي بين مجتمع سابق – رباه احد المصلحين – و بين مجتمع لاحق , عن طريق ترابط اجتماعي وتلاحم مكاني , والتي تهيئ الظروف المناسبة لوجود مرشد ومصلح آخر يكون هو الشحنة الدافعة لعملية التواصل , ومركزا لدوران المعتقدات في كل جيل , وبتعاليم ورؤى ومبادئ جديدة اكثر تفصيلا وعمقا وعددا , تأخذ عملية التواصل هذه على عاتقها تنفيذ المخطط الآلهي العام الهادف , والرامي الى هداية البشرية في كل زمان وكذلك لتحقيق دولة العدل الآلهية , من خلال تهيئة المجتمعات الانسانية الاخرى لتقبل اطروحات هذه الدولة عبر غرس مجموعة من المقدمات التربوية والاصلاحية الكفيلة باعادة مسار البشرية نحو جادة الصواب او قريبا منها .

رؤية اخرى :

ويُعرفها الشيخ عبد الهادي الزيدي في كتابه ( الجديد في الفكر الاسلامي ) :

( والواضح لنا انه الثلة التي تعي قيادتها الحقيقية , وتطبق رؤاها على ارض الواقع باعلى مستوى , مهما بعد او قرب ظاهريا .

المجتمع الايماني ينتقل من مكان الى آخر , حسب الظروف التي تراها القيادة , او التي يمكن ان تساعد على اتساع رقعته في عموم المجتمع , وحسب تعاقب القيادات . وهذا التعاقب بالقيادات يمكن ان يغير من مكان المجتمع الايماني . وبسبب عدم التمكن من التواصل مع القيادات المتعاقبة , يبقى البعض يظن ان المكان الذي كانت تشغله القيادة السابقة هو الاشرف وهو محل وقوع الاحداث التي اخبرت بها القيادات السابقة ) .

مراحل التطور وتعاقب الاجيال

ونحن هنا نقترب من نظرية ) أوجست كونت ) 1798 ـ 1857 , فقد قسم (كونت) تاريخ البشرية الى ثلاثة عهود : الأول سماه عهد الطفولة أو عهد حضارات الدين والأساطير .. والثاني : عهد المراهقة ، وهو عهد الفكر الفلسفي ، بدءا من اليونان ومرورا بالعصر الوسيط ، والعهد الثالث : عهد البلوغ والنضج ، عهد العلم والتقنية بدءا بالاكتشافات والاختراعات العلمية والثورة الصناعية  , لكننا نسير بمنحى آخر عجز ( كونت ) عن بلوغه , لاسباب ذاتية وموضوعية , فنحن نطبق هذه النظرية على ظاهرة المجتمع الايماني وتدرجه في النضوج , ومن ثم وصول الانسانية الى مرحلة جديدة جاهزة لاستيعاب مفهوم الدولة العادلة , بينما نظر ( كونت ) بعين الباحث المادي مثل الكثير من اقرانه .

اقول : ان هذا الاشكال في فهم تطور البشرية ناتج عن دمج مفهومي ( التطور المادي التقني ) و ( التطور الروحي العقلي ) . نعم , ان البشرية اليوم تسير باتجاه عهد البلوغ والنضوج , ولكن ليس بالضرورة في تلك البقاع المتقدمة تقنيا , بل ربما يكون منتهى ( البلوغ والنضوج ) في اماكن اقل تقنية .

تعاقب الحضارات

يقول مصطفى السباعي في ( من خصائص الحضارة الاسلامية ) ما مضمونه : ( يعرِّف الحضارة بعض الكاتبين في تاريخها بأنها " نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي " وتتألف الحضارة من العناصر الأربعة الرئيسية : المواد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون. ولاطراد الحضارة وتقدمها عوامل متعددة من جغرافية واقتصادية ونفسية كالدين واللغة والتربية، ... وقصة الحضارة تبدأ منذ عُرف الإنسان، وهي حلقة متصلة تسلِّمها الأمة المتحضرة إلى من بعدها، ولا تختص بأرض ولا عرق، وإنما تنشأ من العوامل السابقة التي ذكرناها. وتكاد لا تخلو أمة من تسجيل بعض الصفحات في تاريخ الحضارة ، غير أن ما تمتاز به حضارة عن حضارة إنما هو قوة الأسس التي تقوم عليها، والتأثير الكبير الذي يكون لها، والخير العميم الذي يصيب الإنسانية من قيامها ، وكلما كانت الحضارة عالمية في رسالتها ، إنسانية في نزعتها ، خلقية في اتجاهاتها ، واقعية في مبادئها ، كانت أخلد في التاريخ وأبقى على الزمن وأجدر بالتكريم ) ...

ومن هنا كان لتعاقب الحضارات اثر فاعل في نضوج البشرية وتطور المفاهيم الانسانية , لكن على شرط توفر القادة المخلصين الذين يرشدون ابناء كل حضارة لتبني ما هو صحيح ونبذ ما يخالفه , يقول ( السباعي ) : (ولانهيارها عوامل هي عكس تلك العوامل التي تؤدي إلى قيامها وتطورها، ومن أهمها الانحلال الخلقي والفكري، واضطراب القوانين والأنظمة، وشيوع الظلم والفقر، وانتشار التشاؤم أو اللامبالاة، وفقدان الموجهين الأكفاء والزعماء المخلصين ).

اذن كان من اللازم توفر مجموعة عوامل اساسية لنقول لتعاقب حضاري معين انه ( تواصل رسالي ) منتج ل( مجتمع ايماني ) , اهمها :

1 – انتقال لارث حضاري سابق الى احضان حضارة جديدة .

2 – وضوح تميز المجتمع الحضاري اللاحق على المجتمع السابق فكريا .

3 – احتواء كلا الحضارتين على منهج عبادة توحيدي .

4 – وجود مصلح رسالي فاعل في كلا المجتمعين .

هل يجب ان يكون ( المجتمع الايماني ) جلي الايمان ؟

ان الواجب توفره في المجتمع الايماني هو الانتماء للعقائد الصحيحة في الجملة , وان كان تقادم الاجيال وتباعد العهد بين مفاصل الاصلاح من الرسل والاوصياء والقادة يؤدي الى تدني عقائدي وانحراف سلوكي ظاهري , مع بقاء ثلة صالحة تمثل محور الحركة الرسالية في هذا المجتمع .

ويظهر من سورة ( هود )  التدرج الواضح في الخطاب الرباني للامم على لسان الرسل , مراعاةً لحقيقة النمو العقلي المتدرج للبشرية . فالانبياء الاوائل ركزوا على العقائد التوحيدية بصورة مبسطة , لكن بدأ بعض الانبياء لاحقا باستخدام الاحتجاج العقلي , ثم قام باقي الانبياء بتفصيل العقائد وبيان الشرائع .

جوهر القضية :

((  فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) ))

وحديثنا في هؤلاء الناجين القليل في كل زمان الذين ينهون عن الفساد في الارض . والذين اثبتت قرائتي الاولية انهم يتواجدون في كل زمان , يُولدون من رحم المجتمع الايماني السابق , ليؤثروا في تطور ونمو المجتمع اللاحق , لكن بشرط وجود المصلح القادر على النهوض باعباء الرسالة الجديدة , وبعيدا عن الرؤية القرآنية والاسلامية , لقد كان واضحا تأريخيا ان قادة مفاصل حركة المجتمع الايماني ضمن المسيرة البشرية هم خمسة : ( نوح , ابراهيم , موسى , عيسى , محمد ) عليهم السلام جميعا , والذين اطلق عليه النص الاسلامي مصطلح ( اولي العزم ) .

مستويات المجتمع الايماني

ان تأثير المصدر الاولي لنور انبعاث المجتمع الايماني يخلق ثلاثة مستويات ايمانية مختلفة :

1 – الثلة الصالحة , وهي الثابتة على العقائد الحقة , حتى ظهور المفصل الاصلاحي الجديد .

2 – الوسط الايماني , الذي يوجد بتأثير المستوى السابق , وهو مجتمع اوسع من سابقه , واكثر قابلية للانحراف , لكنه مقبول ايمانيا في الجملة .

3 – الهالة الايمانية , وهو المحيط الاوسع للمستوى السابق والمحتضن له حضاريا او مكانيا او قريب منه . وهو نتيجة طبيعية لتأثيرات المستويين السابقين , لكنه اكثر انحرافا , مع احتفاظه بقابلية الاصلاح والنهضة في حالة ظهور مصلح نشيط و ثلة صالحة عالية الهمة .

التراكم الايماني

ان النتيجة الطبيعية لتعاقب عدة مصلحين على مجتمع معين هي ترسيخ مجموعة من المفاهيم والمبادئ والسلوكيات التي تجعل هذا المجتمع ارضاً خصبة لتقبل الاطروحات الاصلاحية الايمانية مستقبلا . ان سبب ذلك هو نمو العقل الجدلي الجمعي والفردي لذلك المجتمع .

يقول دولابورت : ( انشات الأولى حضارة وتعهدتها الثانية واتمتها حتى بلغت ذروتها ، وورثتها الثالثة ، واضافت إليها من عندها ، وحمتها واسلمتها وهي تحتضر هدية للبرابرة الظافرين الذين كانوا يحيطون على الدوام بالحضارة  ).

النبي الخاتم عليه وآله السلام كان عصره هو الحد الذي لا يحتاج بعده المجتمع الايماني الى رسول جديد , بل الى مبدأ ( الوصاية ) , ومن ثم وصل المجتمع الايماني بنموه الى مرحلة مبدأ ( القيادة الراشدة ) , لكن ذلك كافٍ في الحفاظ على الثلة المؤمنة , اما اذا اراد المجتمع الايماني النهوض بالعالم فلابد له من قيادة بمرتبة ( اولي العزم ) .

((  وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )) .

..............

*ملخص للفصل الاول من كتابي قيد التأليف .