من علم الكلام والمنطق
د. محمد عناد سليمان
إذا جاءك الواشي بنبأ، وسمَّاه القرآن «فاسقا»، والـ«نبأ» في أصلها لا تستخدم إلا بشرّ، أما الخير فيسمى «الخبر»، وأراد الواشي تزييف الكلمات، وإساءة العلاقات، ونبذ الصداقات، وتجريح المعتقدات، وتشويه الأفكار والروايات، فكن له سائلا بواحد لا أكثر؛ لأنه إن زاد صار من نفْل الكلام وفضلته، ودخلت معه في علم الجدال والمناوشات، وسوء الأدب والمقارصات.
اسأله بكلمات، خفيفات ثقيلات، بابهن ركنان، متناقضان متفقان، هما أصل الحوار، واضحان وضوح الليل والنهار، متعاقبان بلا انفصام، : هل ثبت عندك صدقُ ما سمعته أم كذبه؟ وأنتما في ذلك على ثلاث إجابات:
الأولى: أن يثبت عنده الأولى، وهو صدْق ما سمع، وهو حينها مطالب بالدّليل والبرهان، عملا بقوله تعالى: «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»، والصدق يعوزه البرهان، كما قالت العرب: «البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير»، فلا يُعرف البعير إلا بالبعرة، ولا المسير إلا بالأثر.
الثانية: أن يثبت عنده الثّانية، وهو كذب ما سمع، فأنت حينها مخيّر بين اثنتين:
الأولى: تركه وما قال، عملا بقوله تعالى: «وإن يك كاذبا فعليه كذبه».
الثانية: أن تجعل نفسك مكان الأولى، وهو عكس ما قال، أي أنك الصادق، وما جاءك كذب، فهما مطالبان بالدليل والبرهان اعتمادًا على نسق الأولى.
الثالثة: لم يثبت أيّ منهما، فتكون في دَرَجِ «لايهمني»، فعندها تصل إلى منزلة ما قبل السماع، وكأنه لم يقل، وكأنك لم تسمع، فتابع العمل، وتدارك الأمل، فهو زاد الحياة، ولا ترَ إلا أنّ عمرك ساعات، ولا تُدرك والأوقات، ولا يُعوَّضُ ما فات.
2
اعلم أنّ السّامع يصله القيل والقال؛ فإن كان عالمًا ورعًا؛ علم المراد قبل السّماع؛ وفنّد الحقّ قبل الضياع؛ وأنجى الغائب بانتفاع.
وإن كان جاهلا خرفا، سارع في تفشّي ما يُراد؛ ونمّق القول وزاد؛ فكان للنّاقل الأوّل ما أراد، فيلهج في معرفة الحال؛ ويلهث بكثرة السّؤال.
أمّا إن كان بين البينين؛ من المتردّدين المذبذبين؛ تراءى له ممّا سمع وجهان:
قول وحدث. وفي التَّحقيق يتقدّم الثّاني على الأوَّل؛ وكلاهما منجذب إلى ركنين، إن صحّ الأوَّل بطَل الثّاني، وإن صحّ الثاني بطل الأوَّل. وهما الصّدق والكذب.
فنعت «زيدٍ» «عمرًا» بالـ«سرقة»؛ يتطلّب التّحقيق جرّ البرهان على صحّة حدوث «الـسّرقة»، أو بطلانها؛ لا إثبات صدور القول من «زيد» أو عدمه.
فإن قام الّدليل على الحدث؛ وقع الصّدق في الثّنتين معا؛ وتفلّت السّامع ذي البينين من إطالة السّؤال، وكثرة الحلّ والتّرحال.
أمّا انعدامه عند السّامع المحقّق فله أمران:
الأوَّل: بطلان الحدث. وهذا يقتضي بالتّرتيب بطلانَ القول، وصاحبه سقط في الجاذب الثّاني؛ والغائب استحقّ الجاذب الأوَّل.
الثّاني: سعيه إلى إلزام المتجاذبين وإسقاطهما على القول لا على الحدث؛ وهنا يتحوّل من سامع إلى ناقل؛ ويصبح شريكا للأوَّل؛ ويزيد العلّة علّة؛ والطّيِن بِلَّة، وهذا إثبات الغبن؛ وغياب العقل؛ وجري وراء السّراب.