الثورة السورية من وجهة نظر فلسفية

خلدون النبواني

ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل للسياسة؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تفعل لعالمها أو لعصرها؟ وإذا كان الجواب: لا شيء، فإنَّ السؤال يُصبح عندها: ما الفائدة من الفلسفة إذن؟

كما كان الحال عليه دائمًا في تاريخ الفلسفة، وحدهم كبار الفلاسفة هم من يُقدِّمون أجوبة مختلفة على نفس السؤال. هكذا فقد أجاب هيغل مثلاً على مسألة دور الفلسفة في مؤلَّفه الشهير مبادئ فلسفة الحقِّ بما يلي: "إنَّ بومة منيرفا لا تفرد جناحيها إلا بعد أن يرخي الليل سدوله". بهذه النظرة يصوِّر هيغل الفلسفة بوصفها تأتي لاحقة على الحدث، بل وبعد فوات الأوان وهو يؤكِّد ذلك باستطراده أن الفلسفة لا تظهر "إلا بعد أن يُكمل الواقع سيرورة تعيُّنه". الآن لو قبلنا بما طرحه "هيغل" من لاحقية الفلسفة على الواقع فإنَّ السؤال يظلُّ مطروحًا: إذا كان الحال كذلك فماذا يمكن للفلسفة أن تُقدِّم لعصرها وعالمها الذين تأتي متأخرة عنهما بخطوة؟ يجيب هيغل على هذا السؤال بقوله إنَّ الفلسفة بوصفها "فكرة العالَم" لا تستطيع أن تقدِّم أكثر من وصفٍ وفهمٍ وتأويلٍ للعصر الذي وجدت فيه.

لن تروق فكرة "هيغل" هذه عن دور الفلسفة كثيرًا لـ"ماركس" الذي لم يكن مقتنعًا بأنَّ هذا الدور يقتصر على محاولة فهم العالَم، فلقد كان "ماركس" يريد للفلسفة أن تضطلع بدورٍ أكثر عملية. لقد كان في الواقع مؤمنًا بأنَّ على الفلسفة أن تساهم في تغيير العالم أيضًا لا الاقتصار على فهمه. في أطروحته الحادية عشرة حول "فيورباخ" يوضِّح "ماركس" فكرته هذه بالقول: "لقد قصر الفلاسفة دورهم على تفسير العالم بطرق عدَّة، بينما المهمُّ هو تغييره".

في حين تلحق الفلسفة بالواقع وفقًا لـ"هيغل" وتلتزم بتغيير عالمها وزمانها الحاضر وفقًا لـ"ماركس"، فإنها تأتي دائمًا في غير أوانها بالنسبة إلى "هيدغر". في كتابه مدخل إلى الميتافيزيقا يؤكِّد "هيدغر" على أنَّ

أي تساؤل جوهري للفلسفة يكون بالضرورة في غير أوانه. وهذا إمَّا لأنَّ الفلسفة تجد نفسها مُلقاة أمام حاضرها الخاص، وإما لأنها تربط هذا الحاضر مع ما برح كائنًا في البداية وفي الأصل.

بالإضافة إلى هذه الوظائف الثلاث للفلسفة: نظرية "هيغل"، وعملية "ماركس"، وتبشيرية وصوفية "هيدغر"، فإنَّه يمكن لنا أن نستشهد أيضًا بوظيفة رابعة طريفة للفلسفة يقدِّمها لنا الفيلسوف النمساوي "لودفيغ فتجنشتاين". إنَّ الفلسفة وفقًا لهذا الفيلسوف تظلُّ بلا حول ولا قوَّة إزاء عالمها وزمنها. من هنا فهو يُصرِّح في كتابه بحوث فلسفية:

إنَّ الفلسفة ببساطة تضع كلَّ شيء أمامنا وهي لا تُفسِّر ولا تستنتج شيئًا، وبما أنَّ كلَّ شيء ملقىً أمام ناظرينا، فليس هناك شيء ليُفسَّر.

ولأن "فتجنشتاين" يؤمن أنَّ الفلسفة "تترك كلَّ شيء على حاله"، فإنَّه ينصحنا بالقول: "لا تفكِّروا، ولكن انظروا".

لقد استحضرت هذه الأمثلة الفلسفية لسببين: الأول: للتفكُّر في فائدة الفلسفة للسياسة والحياة الاجتماعية؛ الثاني: يتعلَّق بتحوُّلي الشخصي فلسفيًا الذي بدأ مع بداية الثورة السورية، ولأكون أكثر دقَّة فإنَّه قد بدأ فعلاً مع بداية الربيع العربي.

ربما عليَّ أن أعترف هنا بأنني، وقبل بداية هذا الربيع العربي، كُنتُ أُفضِّلُ المسائل الفلسفية المحضة والتي تتعامل مع أسئلة تتعلَّق بمباحث الأنطولوجيا، أو فلسفة الفنِّ، أو تلك العلاقة المعقَّدة بين الأدب والفلسفة. وعليَّ هنا أن أُقرَّ بأنني كنتُ أتحاشى إلى حينٍ من الزمن مسائل تتعلَّق بالفلسفة العملية كالفلسفة السياسية وفلسفة الاجتماع وفلسفة الأخلاق وفلسفة القانون. أيًا يكن فإنَّ الأمر لم يكن دائمًا هكذا، فعندما كنتُ طالبًا في جامعة دمشق في منتصف التسعينيات كانت الماركسية مهيمنة على قسم الفلسفة فيها.

لا شكَّ أن تأثير ذلك المُناخ الماركسي قد جذبني وبخاصة في سنواتي الجامعية الأولى، ولكن بعد ذلك بدأتُ بالبحث عن فلسفة ما بعد الماركسية تتجاوز فلسفة "ماركس". لقد قادني هذا البحث إلى التعرُّف على نظرية "هابرماس" العقلانية في التواصل التي اخترتها كموضوع لدراسة الماجستير. ولكن وأثناء دراستي لنظريَّته الاجتماعية، وجدتُ أنها عملانية جدًّا ولا تتناسب مع ميولي النظرية.

بعد عشرة سنوات من ذلك أصل إلى باريس حيث أعثرُ على ضالتي في تفكيكية "جاك دريدا" الأول (قبل سنوات التسعينيات). عندها فقط شعرتُ أنني قد تحرَّرتُ من عبء الأيديولوجيات التي سيطرت على تفكيري في سنوات دراستي الأولى للفلسفة. مع قدوم الربيع العربي أعيد اكتشاف أهمية دور الفلسفة في تغيير العالم. ولكن لكي يتمكن من فعل ذلك، على الفيلسوف، بنظري، أن يفهم العالَم أولاً لكي يحاول تغيره ثانيًا. هكذا فإن مقالي هذا يسعى لأن يستوعب الوضع السياسي الراهن في سوريا التي تسعى العديد من الجهات والقوى المتصارعة إلى تغييرها. إذن وعبر الأدوات الفلسفية، سأحاول هنا أن أفكِّك بعض المعطيات لما صرنا نسميه اليوم عن استحقاق بالثورة السورية.

كثرة الحقائق تعني أنَّه لا توجد حقيقة: الصراع بين الحقائق في سوريا

دعوني أولاً أتساءل عن "الحقيقة الواقعية" لما يحصل في سوريا منذ بداية الثورة السورية. أودُّ في الواقع تفكيك إشكالية الحقيقة في السياسة بسبب ذلك الخلط الناشئ عن تعدُّد المصادر التي تحاول كلٌّ منها أن تقدِّم لنا "حقيقة" ما يحدث في سوريا، سواء أكانت مصادر عربية أم غربية. فلو شاهدنا قنوات التلفزيون السوري على سبيل المثال، فإننا سنرى تلك "الحقيقة" التي يسعى النظام السوري عبر وسائل إعلامه إلى تقديمها للمواطن السوري أو العربي. ولكن، لو شاهدنا قناة الجزيرة، أو العربية، أو قنوات عربية إخبارية أخرى، لوجدنا "حقائق" مختلفة أُخرى.

نحن نعلم جيدًا أنَّ نظام "بشار الأسد" يُغلق سوريا أمام كلِّ وسائل الإعلام، غير تلك السورية التي يمتلكها بطبيعة الحال، ليُقدِّم "الحقيقة الوحيدة" عمَّا يجري في ذلك البلد، تلك "الحقيقة" التي يصوغها، ويفبركها، وينتجها رجال مخابراته وإعلاميه الأمنيين.

يظلُّ السؤال هو: أين يمكن لنا أن نجد الحقيقة بين كلِّ تلك "الحقائق" المتصارعة حول الوضع في سوريا؟ ما هي وسيلة الإعلام التي تقدِّم الواقع بموضوعية أكثر من غيرها، وبخاصة أننا نعلم أنَّ معظم وسائل الإعلام لا تمتلك فريق عمل على الأرض؟ يقودوني هذان السؤالان إلى مقاربة مسألة "الحقيقة" في السياسة إذن.

ما هي "الحقيقة" في السياسة؟ هل هي ذلك النوع من الحقائق الموضوعية التي يتمُّ اكتشافها؟ أم أنَّها تلك الحقيقة التي تُخترع، وتُفرض على العلوم الاجتماعية كما هو حال "إرادة القوَّة" عند نيتشه. أو كما هي بالأحرى "إرادة الحقيقة" عند فوكو؟ أو هل هي أخيرًا حقيقة توافقية تعتمد على التفاهم والتوافق بين الناس؟

لسوء الحظِّ، فإنَّ الحقيقة في لعبة السياسة، هي أقرب ما تكون لمفهوم الحقيقة عند "ميشال فوكو"، بوصفها خطاب قوَّة. إنَّ هذا يعني أنه لا توجد حقيقة في السياسة (كما هي عليه اليوم على الأقل) لتُكتشف ولا حقيقة يتمُّ الوصول إليها عبر نقاش حُرٍّ لأعضاء المجتمع، الذين يتناقشون بهدف إيجاد حلول لمشاكل حياتهم، أو للتخطيط لمستقبلهم. إنني أميل هنا لأن أرى في الحقيقة السياسية المُمارسة بوصفها "حقيقة" مُخترَعة ومُفبركة، تفرضها القوَّة السياسية الأقوى، التي تستطيع إقصاء غيرها من "الحقائق". إنَّ هذه اللعبة السياسية تتعلَّق، برأيي، بـ"الحقيقة" على المستويين: مستوى السياسة الخارجية بين الدول؛ ومستوى السياسة الداخلية لنظام سياسي ما أو حكومة بلد معين.

حتى في أكثر البلدان ديمقراطيةً في العالَم (على أن نأخذ بعين الاعتبار هنا درجات الكذب والفبركة، ومدى وعي الناس في هذا البلد أو ذاك). بهذا المعنى يكون الإعلام في السياسة، أرض معركة بين الخطابات المتصارعة على فرض حقيقتها الخاصة، وإقصاء ما عداها واستبعادها. للأسف، إنها معركة بين حقائق مُزَوَّرة ومُفَبْرَكة، تستند على بعض معطيات "الواقع"، ولكنها معطيات مُختارة لتتناسب مع ما يُراد قوله بعد أن يتمَّ تحريفها وتشويهها وتفصيلها وإعادة إنتاجها عبر وسائل الإعلام التي تُخفي أجندات معينة، تحتجب خلف ادِّعاءات الموضوعية والحرفية ونقل الواقع كما هو دون تحريف. بهذا المعنى فإنَّ "الحقيقة الموضوعية" هي أولى ضحايا الإعلام المُسيَّس، أو هي أول من يسقط أو يختفي في معركة السياسة. ألم يكن هذا هو حال الإعلام الأمريكي أثناء حرب الخليج عام 1991 على سبيل المثال؟ ولعلَّ هذا قد يقودنا إلى النتيجة التالية: إنَّ وجود حقائق كثيرة جدًا يعني أنه لا توجد حقيقة موضوعية واحدة.

كلمة أخيرة أودُّ أن أضيفها بشأن مسألة "الحقيقة" في السياسة. حتى ولو أنني مُقتنع بعدم وجود حقيقة في السياسة، إلا أنَّ عليَّ هنا أن اعترف بأنَّ ظاهرة "المواطن الصحفي"، الذي يستخدم كاميرا هاتفه المحمول لتصوير الأحداث على الأرض، والتعليق عليها ونشرها، قد كسَّر سُلطة احتكار الدولة للإعلام. ولو تحدَّثنا عن سوريا لقلنا إنَّ هذه الظاهرة قد شكَّلت تحديًا خطيرًا للإعلام المخابراتي السوري، وقدَّمت خطابًا أكثر مصداقية من خطابه الذي يسعى عبر أرخص الوسائل وعبر سياسة "الاستحمار" لتمرير خطاب يسعى لأن تحافظ الأسرة الحاكمة في سورية على السلطة "إلى الأبد".

الاستشراق والأحكام المُسبقة

أعيش في فرنسا منذ أكثر من ثماني سنوات، ممَّا يعني أنني كنتُ خارج سوريا منذ بدء الاحتجاجات التي قامت ضدَّ نظام حكم الأسد الابن. والسؤال الذي يُطرح هُنا: كيف يمكن لشخص يعيش "خارج المكان" أن يفهم الوضع المُعقَّد في سوريا؟ (فكلُّ معلوماتي عن الثورة السورية تأتي من الإعلام: كالجرائد، وقنوات التلفزيون، والاتصالات الهاتفية وما شاكل ذلك).

بعد أن ناقشت بشكلٍ عام مشكلة الموضوعية، وحالة الإعلام العربي الذي يُقدِّم "حقائق" مختلفة، بل ومتضاربة أحيانًا، حول ما يحدث في سوريا، فإنني أودُّ أن أتحدَّث هنا عن الإعلام الغربي في تقديم المسألة السورية. وبكلماتٍ أُخرى، فإنني سأحاول أن أُفكِّك "الحقيقة" التي يُقدِّمها الغرب عن الحياة السياسية والثقافية للعرب على العموم وفي سوريا على وجه الخصوص.

منذ بداية الثورة السورية، وأنا أقرأ صحفًا انجليزية، وفرنسية، وأُشاهد محطات إخبارية، مثل CNN, SKY NEWS, BBC WORLD NEWS وبالطبع قنوات إخبارية فرنسية أيضًا. إنني أفعل هذا لأعرف ما يقوله الغرب عن هذه الثورة. ولقد صُدِمتُ حقًا بالأسلوب الذي يقدِّمون به الصراع في بلدي. فعلى الرغم من التباينات في اهتماماتها، وفي فرقها الصحفية، وفي أسلوب تقديمها، وفي عناوينها، وفي كليشيهاتها، وفي ديكور استديوهاتها، وفي شكل شعاراتها، فإنَّ كلَّ تلك الوسائل الإعلامية الغربية كانت تتحدَّث بنفس اللغة. وما أقصده هنا أنها كانت تختزل الصراع الحاصل في سوريا، كما لو كان صراعًا دينيًّا محضًا.

من الواضح أنَّ وجهة النظر الغربية تلك مهووسة بقصة الصراع بين نظامٍ علويٍّ حاكم في سوريا، في مواجهة ثورةٍ سُنيَّة، وهي تتعامى تمامًا، أو لعلَّها غير قادرة على رؤية الحراك الشعبي في سوريا بوصفه ثورة شعب مضطهد على اختلاف انتماءاته في وجه نظام دكتاتوري دموي.

نحن هُنا مرَّة أُخرى أمام وسائل إعلامية، ولكن غربية هذه المرَّة، تقوم بفبركة "حقيقتها" الخاصة بما يتلاءم مع مصالح مرجعياتها المختلفة. هكذا تُساهم الصورة المُقدَّمة من قبل الغرب، بشكلٍ أو بآخر، في تحريف الصراع الدائر، الذي لم يعد محصورًا في سوريا وإنَّما أيضًا على سوريا. لقد ساهم تعنُّت النظام السوري وهمجيَّته مع الحلِّ الأمني الذي اتَّبعه في محاولة القضاء على الثورة السورية، بكلِّ الوسائل – بأيِّ ثمن – في تأكيد هذه الصورة المُزيَّفة أصلاً، وتقديم الصراع كصراع أنطولوجي سني/ شيعي. هكذا ساعد الغرب عن وعي ودون وعي، على تحويل صورة الصراع إلى صراعٍ أنطولوجي ميتافيزيقي بين الآلهة. هذا التصوير الأنطولوجي للثورة السورية، هو خطير جدًّا لأنَّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقود إليه هو حربٌ أهلية، تُدمِّر العيش المشترك في مجتمعٍ مُتعدِّد الطوائف والأديان والعرقيات.

ولو سألنا أنفسنا: لماذا يُصِرُّ الغرب على رؤيتنا كمجرَّد مجموعات دينية، أو كفرق وملل ونحل، أو كقبائل... إلخ؟ فإنَّ جوابي المبدئي على هذا السؤال، هو أنَّ ذلك يعود إلى الأحكام المُسبقة والقبْليَّة التي صاغها الاستشراق الاستعماري، وقدَّم من خلالها العرب بوصفهم مُجرَّد بدو، مُتطرفي التديُّن، يعيشون في الصحراء مع الأغنام والجمال. لا شكَّ أنَّ في هذه الصورة شيء من الحقيقة، ولكنها حقيقة جزئية صغيرة مُختصرة ومشوَّهة عنا، فنحن أيضًا شعوب مدنيَّة، عندنا كلُّ الحقِّ كبقية شعوب العالم في العيش في ظلِّ مؤسَّسات وأنظمة مدنيَّة ديمقراطيَّة وعادلة.

على العالَم أن يعي أنَّ الناس في سوريا قد نزلوا إلى الشارع، لأنَّهم يريدون الحريَّة، والديمقراطية لبلدهم، وليس لأنهم مختلفون دينيًّا.

إنَّ السؤال الثاني الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي مصلحة الغرب في تأطير الثورة السورية في هذه "الحقيقة" النمطية وتقديم هذه الصورة الخاصة به بوصفها حقيقة قاطعة نهائية؟ بعيدًا عن تصريحاته وخطاباته، فإن الغرب لا يُشجعُ فعلاً سيرورة الديمقراطية في العالم العربي. إنَّ السبب في ذلك يعود، وفقًا لنعوم تشومسكي، إلى أن:

الولايات المتحدة وحلفاءها سوف يفعلون كلَّ ما بوسعهم لمنع حصول ديمقراطية أصيلة في العالم العربي. والسبب في ذلك بسيطٌ جدًّا: فالأغلبية الساحقة من السكان على امتداد تلك المنطقة ينظرون إلى الولايات المُتحدة بوصفها التهديد الرئيسي لمصالحهم.

من المؤكَّد أنَّ الغرب قد تفاجأ بالقدوم غير المتوقع للربيع العربي، لذا فهو يحاول عبر كلِّ الوسائل لاحتواء نتائجه التي يمكن أن تُضِرَّ بمصالح الغرب في المنطقة العربية، بما في ذلك مصالح دولة إسرائيل التي يرعاها الغرب.

من الطبيعي ألا تكون مصالح القوى العُظمى في العالم متَّفقة، لذلك فهي في صراع فيما بينها على هذه المصالح. وبسبب من هذا الصراع على المصالح الاقتصادية والإستراتيجية استفاقت الحرب الباردة من جديد مع الصراع الجاري في سوريا بين الولايات المتحدة وأوروبا من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية ممَّا أطال بعمر الثورة وزاد من معاناة الشعب السوري وعقَّد الوضع في المنطقة.

حقيقتنا هي حُلمنا:

بالنسبة إلي، فإنَّه من البديهي، بل ومن المُسلَّم به أنَّ "الحقيقة" المُقدَّمة من قبل النظام السوري هي مفبركة من ألفها إلى يائها، هدفها الوحيد إبقاء الناس عبيدًا تحت سُلطة النظام. وأستطيعُ القول إنَّها، حالة "حقائق" وسائل الإعلام الأُخرى العربية والغربية.

وعليه، بما أنَّه لا توجد حقيقة لتُكتشف في السياسة، وإنما مُجرَّد حقائق مُفبركة تُفرَض بوصفها حقائق ثابتة من قبل الأطراف المتصارعة، فإنَّ على الشعب السوري أن يخلق حقيقته الخاصة به ويناضل في سبيل فرضها هو أيضًا.

ما هي الحقيقة التي يُمكن لنا أن نخلقها كسوريين؟ إنَّها حقيقة حُلمنا في الدّيمقراطية والحرية لسوريا. علينا أن نؤمن بحلمنا ونناضل من أجله، وعندها سيُصبح واقعًا. هل أكون طوباويًا بقولي ذلك؟ ربما نعم، ولكن لنتذكر أن أعظم الإنجازات التي صنعها الإنسان لم تكن في البداية إلا مجرَّد أحلام.

على الرغم من النقد القاسي للنتائج الحالية للربيع العربي، وخاصة بعد وصول الإسلاميين إلى الحُكم في كلٍّ من تونس ومصر واليمن وليبيا، فإنَّ من المُبكِّر جدًّا الآن أن نحكم على المآل النهائي للربيع العربي. لا توجد ثورة واحدة في التاريخ قطفت ثمار ما حققته بين ليلةٍ وضحاها.

وبما أنني أتحدَّث عن الحُلم فإنَّ لي حُلمًا أخيرًا: فأنا آمل أن أرى في يومٍ من الأيام امرأة مسيحية في سُدَّة الرئاسة في سوريا، أو في أي بلدٍ عربي آخر. أتمنى أن أرى امرأةً رئيسة، لأنني أودُّ أن أشهد تفكُّك الهيمنة الذكورية المُسيطرة على ثقافتنا العربية. بينما أحبُّ أن تكون مسيحية، لأنني أحلم بالانتهاء من تلك الفكرة التي ترى أن دين الأكثرية هو الذي يجب أن يُسيطر. لن نسأل بعدها عن جنس أو دين أو عرقية الرّئيس (ة) لأنّه سيكفي عندها أن تكون مواطنًا.