(نمير السوسنات) يطفئ ظمأ الروح ويأسو جراح الإنسان
(نمير السوسنات)
يطفئ ظمأ الروح ويأسو جراح الإنسان
الدكتور خليفة بن عربي ينشد
في مكتب رابطة الأدب الإسلامي في الأردن
صالح أحمد البوريني/عمان
كانت قلوب عشاق الشعر على موعد مع الغروب ، في ذلك المساء الجميل، وشمسُ سماءِ عمان تدنو من الأفق الغربي وتهم بالرحيل، وعيون المنتظرين تتطلع إلى ربوة ذات قرار ومعين، وأسماعهم تستنصت الزمان والمكان والإنسان؛ شوقا إلى جميل القصيد ورقيق النشيد. وعلى منصة البيان، تحفزت عرائس الإبداع للغناء، وتهيأت بنات الأفكار وصور الخيال لعناق حار، في جو يعبق فيه عبير الربيع؛ ربيع القلوب، وربيع الشعوب، وربيع الأوطان، وتنتشر في فضائه نسائم الرياحين، وشذا الوجد الروحي وعبق الحنين على أبواب البلد الأمين، وعند أعتاب خاتم النبيين وسيد المرسلين.
ومع ذلك المساء الجميل، ضمت جنبات مكتب رابطة الأدب الإسلامي في الأردن جمعا خيرا من أعضاء الرابطة وروادها؛ وهناك كان الترحيب بضيف الشعر والأدب القادم من البحرين، الشاعر المبدع الدكتور خليفة بن عربي، أستاذ نقد الشعر الحديث في جامعة البحرين، الذي مزج رحيق الشعور بماء اليقين، ومشج نزيف الحروف بدمع الرثاء والحنين، فسكب على ظمأ الروح ماء فراتا، وعلى لهيب الجراح بلسما شافيا، وشنف الأسماع بباقة من القصائد والمقطوعات، انتقاها من ديوانه (نمير السوسنات) الذي طبع مؤخرا في البحرين.
في بداية الأمسية رحبت رئيسة مكتب الرابطة السيدة الشاعرة نبيلة الخطيب بالضيف الكريم، وحيت جمهور الحاضرين، ثم عرَّفت بكلمات موجزات بشخصية الدكتور خليفة بن عربي، الذي قرأ طائفة من قصائد (نمير السوسنات) ، منها (فيض الميلاد) و (لقطة من وحي الميدان) و (إلى أطفال سوريا) و (شكوى الجراح) و(مواجع خضر) و(مقطوعة موجهة لوطنه البحرين) و (أنا الشآم) .
وقبل أن يشرع في قراءته الشعرية؛ نقل الأمين العام للرابطة إلى رئيسة وأعضاء مكتب الرابطة في الأردن، تحيات الدكتور عمر العاني نائب رئيس مكتب الرابطة في البحرين، وأفاض في شكر الرابطة وأعضائها على ما أحاطوه به من حفاوة وتكريم.
استهل قراءته بقصيدة (فيض الميلاد) التي كتبها بمناسبة مولد النبي صلى الله عليه وسلم والتي قال فيها الدكتور عبد الستار الراوي في قراءته لديوان (نمير السوسنات):" يحفر ابن عربي في ذاكرة الكون جنون الورد ونشيج الشجر ورحيق الأشواق ورائحة الحب الأول، تنتظم موجودات الكون، النجم والبحر والشجر والإنسان، ينشدون مع شاعرنا (فيض الميلاد)، يجتاز خليفة في قصيدته التيه، الليل، ويلوذ بغابات السوسن، وأمام المقام النبوي الشريف، يذوب مهابة ووجدا، وهو يرفع ابتهالاته في ذكرى الميلاد الأعظم، وهي جوهرة الديوان": ويقول في مطلعها :
أنر بشموس وجهك أمنياتي=وزمِّـل من بريقــك ذكرياتي
وُلدتَ فأينعتْ دنيا الروابي =وكنتَ فأزهــرتْ كل الحيـــاة
إلى أن يقول في آخرها :
ويعلو من جبينك نورُ هَدْيٍ=ويهوي الشركُ منثورَ الرفاتِ
ثم قرأ قصيدة من شعر التفعيلة بعنوان: "لقطة من وحي (الميدان)"، ظهر فيها انحيازه لآمال الشعوب، واحترامه لتطلعاتها، وإيمانه بحتمية انتصارها على الجلادين والسيافين والبغاة الظالمين، حتى إنه ليرى ثورة ميدان التحرير في القاهرة وكأنها قد جمعت بني آدم كلهم في صعيد واحد؛ هو صعيد الثورة على الظلم، فتَـوَحَّد مطلبهم والتقت غاياتهم وسقطت الفوارق بينهم :
وهناك في الميدان
تنتحر الفوارق
تعبر الأحلام مثقلة بأول حب
ذابت ملامح كل أهل الأرض
واتحدت بسحنة ذلك المصري
وافترشت شعاع القلب
الكل يهتف
يسقط السياف.
ويتجلى تمجيد الطفولة لدى ابن عربي في قصيدة (إلى أطفال سوريا) في أبهى صورة، إذ يرى في تلك الطفولة رمز العزة والكرامة، وربيع حياة الأمة وأملها في النصر الذي يفوح شذا بشائره من دم الشهداء، والطفولة في هذا النص؛ تمثل البديل الموضوعي لرجولة الجيوش العربية الغائبة، كما تمثله الثورة السورية كلها؛ التي يرى أنها ثورة الشمس على الظلام، وثورة الحق على ظلم الطغاة والحكام:
يا ثورة الشمس التي قد أيقظت
في الروح كل عزائم العظماء
يا شام أودعناك ربًّـا قادرا
فبُـراق نصر الله في الأنحاء
عِطْرُ الملائك في ربوعك عابق
وشذا البشارة فـي دم الشهداء.
تتحقق في أشعار خليفة بن عربي المطابقة بين الشعر والواقع، وذلك عبر التجربة الشعورية الصادقة التي تمتزج فيها الأحداث بالانفعال، فتعيد المعاناة إنتاج الحدث في صور تعبيرية جديدة، ترسم ملامح الواقع بلغة شعرية خاصة، تتميز بشفافية الرمز وثراء الدلالة والتناغم الصوتي والتوازن الإيقاعي. وتستحق أشعار ابن عربي مزيدا من الدراسة لا يتسع لها المقام هنا.
أما في الرثاء فيتألق الشاعر خليفة بن عربي، وتسري روح الشعر في قوافيه سريان الأشواق في شرايين العشاق، فتتلاشى المسافات، ويتماهى الغائب مع الذات، حتى يصبح الفقد وجودا، والغياب حالا مشهودا . يقول في قصيدة (مواجعُ خُضْرٌ):
ولا تستثِـر قُبـَّرات المساء
لكيما تؤدي إليك العزاء
يقولون قد عظم الله أجرك
فنحن موات وأنت البقاء
لوحات خليفة بن عربي الشعرية بديعة الصور متناسقة الأشكال متوائمة الألوان، تريك في القراءة الأولى مشهدا أوليًّا، لا يلبث أن يتسع مداه وتتضح رؤاه ليشف لك في القراءة الثانية عن دلالات أبعد وخطوط أكثر وضوحا وجمالا.
علقت الشاعرة نبيلة الخطيب بعد القراءة الشعرية الممتعة، بكلمات تقطع الطريق على كل تعليق، وتفسح المجال لمزيد من التأمل والنظر ، إلا من كلمة قدمها المهندس سعيد الهودلي جمع فيها باقة من ذكريات لقائه بوفد من طلبة البحرين في الكويت قبل سنين خلت وضمنها مزيدا من الترحيب العاطر بالضيف .
ومع نهاية اللقاء، كانت الشمس تسحب آخر خيوطها، ليبدأ فصل جديد قبل الرحيل، فصل من توثيق التعارف، وتبادل البطاقات وتسجيل العناوين، واستلام الإهداءات على الصفحات الأولى من كتب ودواوين تَعِـدُ بتجدد اللقاء ولو بعد حين.