حريق صغير من حريق وطن كبير
د. سماح هدايا
كان يبكي بشدة، وهو يتكلم عبر الهاتف معنا. لم نفهم منه شيئا، مع أننا سمعنا زوجته تحاول تهدأته لينفل لنا الخبر. لم يستطع أن يقول شيئا, لكننا عرفنا ماذا يريد أن يقول، ولم يستطع قوله؛ لأنه خاف وقع الصدمة علينا . كان يريد أن يخبرنا أن المزرعة والبيت قد احترقا، بشكل كامل، وأنهما تهدما تحت القذائف والنيران؛ لكننا كنا قد عرفنا ذلك منذ أسابيع مضت، عندما رأينا في فيديو من فيديوهات الثورة السورية، التي يصورها رجال أبطال، مشهد احتراق الجبال الخضراء وتحطّب الشجر في المناطق المجاورة لقرية سلمى. وشاءت المصادفة أن يلتقط الفيديو منطقة مزرعتنا والبيت الريفي الكبير الرابض على ربوة فيها. ولأنّه كان يدرك حجم الخسارة في المكان، خصوصا، أنه الذي كان يتعهد العمل بها، وأنّ الذي احترق وتدمر، أيضا هو بيته وبيوت أولاده والأراضي الزراعية الواسعة التي كانوا يعيشون منها وعليها، كان يبكي ويعجز عن إخبارنا بالحدث.
عندما شاهدت الصور، توجّع قلبي جدا؛ فليس سهلا أن ترى عشرات الدونمات التي عملت على زراعتها بمحبة وعشق، وبذلت فيها مالا كثيرا وجهدا كبيرا، لكي تكبر، وهي تحترق وتتكسر وتتحطب أمام مرأى عينيك. وليس سهلا أن ترى البيت الذي وضعت فيه أمنياتك وأحلامك وأموالك وبنيته لبنة لبنة، بحسب ماتيسر لك من مال، بين حين وحين، ليكون جنتك وعلى مواصفات وجدانك، ومستقرا لك ولأولادك بعد ألف اغتراب، وهو يتحطم وينهار، هكذا، ببساطة شديدة، في أحداث المشهد أمامك، تحت عنف القذائف والنيران. لكنّ الأصعب والأشد والأقوى تأثيرا، أن ترى تلك الجبال الخضراء الشامخة الواسعة تحترق ؛ فتأكل النيران أشجارها الضخمة والعريقة، وتتداعى تحت القصف، بعد أن كانت، في يوم غير بعيد، مزار المصطافين والسائحين لعبقرية جمالها الطبيعي. حقّاً إنّه لمريع، جدا، منظر الدمار في الأرض والطبيعة والوطن والتاريخ والذكريات.
أوّل الأمر، تأملت جديا لأتفحّص أن المشهد أكيد...، وعندما تيقنت منه، التهمت الدموع قلبي قبل أن تنال من عيني... نعم لحظتها بكيت بشدة؛ مع أني كنت أعرف أن خسارة المزرعة والشجر والبيت، لا يقارن بخسارة الناس لأهلهم وأقاربهم وأولادهم وجيرانهم...وأن خسارتي تافهة جدا، مقارنة بخسارة الآخرين لأعزائهم ولحيواتهم. لكني، بكيت بحسرة، ليس على جهد ضاع، وعلى أموال احترقت، بل، أيضا، على اغتيال الطبيعة واغتيال الجغرافيا وتهديم البيئة وإبادة الحياة وقهر الإنسان. فسوريا التي كانت تتآكل طبيعتها الجميلة، يوما بعد يوم، بفعل العشوائيات والسياسات الإفسادية والفاسدة والنهمة التي مارسها نظام الإرهاب والتجهيل والاستبداد، وساعد في نشر التصحّر والفقر، كانت تقاوم بكثير من نيّات أهلها الطيبين وأعمالهم، مراحل الانهيار والتهاوي. فكان أناسها الذين هم على وعي بحبها وبممارسة الوفاء لها، يسعون إلى تجميلها وتعميرها، بإنشاء المزارع التي تقول للطبيعة والأرض نحب هذا الوطن ونريد أن نأكل منه وان نجعله الأجمل، بشكل من أشكال التجميل والتعمير. وتلك المزارع التي احترقت، بفعل التدمير الإجرامي الممنهج للقضاء على الوطن، كانت تقول اللغة ذاتها؛ فهي محاولة للتناغم بين الطبيعة العذراء والتراب النقي وبين صناعة لزراعةٍ تقدم محاصيل خير ولا تسيء إلى توازن الطبيعة.
بكيت بصمت، في ممر ضيق من الانكسار. لكنني سرعان ما خجلت من بكائي على أمور شخصيّة وخسارة صغيرة جدا، وصحوت من سكرة الذات، وتذكرت كثيرين خسروا أعز مالديهم، وصمدوا واستمروا في الحلم والمقاومة، وتذكرت أسرة صديقة لاجئة في مخيمات الشتات، عرفتني إليها الثورة، وراجعت بعقلي قصة صمودها بكرامة وعزّة، على الرغم من دمار بيوتها وخراب مزارعها؛ فهي لم تكترث لذلك، وكان فقدانها أشد وأقوى بمقتل أفراد من أبنائها برصاص عصابات الإرهاب الأسدي. فاستجمعت أفكاري وقلت لنفسي أنّ علي الغضب لا الحزن. وعلي الثورة على خسارتي لا ندب الحظ. وعلي المقاومة والمشاركة في إسقاط نظام الإرهاب والاستبداد. فقد انتهى زمان العجز والتباكي. فماذا خسرت أنا لأبكي أو أحزن، مقارنة بخسائر الآخرين الفادحة، الذين يسطرون على أرض المعركة ملحمة بطولية في مسعى الحرية والكرامة، ويقدمون فيها فلذات أكبادهم؟. هناك عشرات الآلاف من أبناء شعبنا ووطننا يموتون ويذبحون ويعذبون ويتهدد وجودهم في الحياة؛ لكنهم يقاومون؛ فكيف لخسارات ضئيلة أن توجعنا وتبكينا. عار علينا أن نفعل هذا. فلا يهم ماخسرناه من مال وذكريات وجهود وعناء. المهم أن يسقط النظام، مهما جاء الثمن غاليا. والأهم أن نستطيع إعادة البناء والإعمار وأن يتحقق الحلم بالحريّة والعدالة، فالتضحيات التي قدمها الشعب السوري كثيرة والخسائر فادحة. والنصر لابد منه ردا عن كل هذا الدمار والتضحيات، وثمرة لثمين الفداء. والصمت أو الخذلان أو التباكي السلبي عجز وخيانة للدماء.
نعم. قد تكون الخسائر الشخصيّة، على تفاوتها، مؤلمة وموجعة، وقد تكون نكبة وفجيعة ومأساة؛ فليس هناك بيت في سوريا الثائرة إلا وتضرّر وخسر ونزف دمعا ودما: على بيوت ومزارع ومدارس ودكاكين رزق وأحبة وأهل وأصدقاء وأحباء؛ لكن الخسائر الكبرى تتحقق عندما يتهدم الوطن ولا نقوى على بنائه لأننا منشغلون بانقسامات وخلافات وسباق مصالح، ولأن عقلياتنا لم تتحرّر من بلادتها وجهلها وصمتها وتقاعسها ورتابة أفكارها التي أكلها العت وابتلعتها العفونة.
تتحقّق الخسائر الكبرى عندما نتقاتل على منصب وسلطة ومركز وقيادة. وعندما لانؤمن بقدراتنا الذاتية للبناء، وبقوة مطالبنا وشرعيتها وأحقيتها. فالوطن، الآن، ليس مقهى صغيرا ليأتي إليه الغرباء ويتسولون الفائدة أو يتسلون، وليس قاعة استقبال وزيارة للثرثرة والدردشة والعبث في هامش الوقت. إنه مقام التاريخ والجغرافيا والطبيعة والإنسان، وقد فتح بواباته للعبادة. الوطن يحتاج منا أن نعدّ العدة لإحيائه: لتشجيره وتخضيره وبنائه، وحمل دماره على الأكتاف القوية، من أجل تعميره وتنظيفه من مخلفات الحرب وتنقيته من التصحّر والقحط، وإزاحة عقلية التهميش والترقيع والعشوائية عن قلبه. الوطن ينتظر المعرفة والعقل الناقد والفكر الخلاق. ينتظر أن تتطوّر فيه روح الحرفة والصناعة والفن والإبداع. الوطن ينتظر أبناءه لكي يحبوه فعلا وعملا، ويتعاونوا جميعا على رد الحياة إليه. فلتكن دموعنا مدادا حلوا، لكي نسقي الوطن خلاصة قلبنا.