مجمع اللغة العربية في اسرائيل بين الضرورة والسياسة
مجمع اللغة العربية في اسرائيل
بين الضرورة والسياسة
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
لفت انتباهي مقال للزميل الكاتب ، رئيس تحرير صحيفة "الأخبار" النصراوية محمود ابو رجب، الذي نشر بتوسع على الشبكة العنكبوتية وفي صحيفته "الأخبار" ، تحت عنوان "مسخرة واسمها المجمع اللغوي العربي في اسرائيل".
في مقاله يوجه الكاتب نقدا لاذعا لمجمع اللغة العربية، ولبعض اشتقاقاته اللغوية، ولنشاطه، ويشير الى عبث مجامع اللغة، وان لبنان اغلق مجمعه للغة العربية بعد سنتين من تأسيسه لتوفير المال لما ينفع. وبذلك يفتتح محمود ابو رجب النقاش والتداول حول مسألة هامة، تحتاج الى مكاشفة ومصارحة.
لا انفي اني تماثلت الى حد كبير مع بعض مواقفه. كنت اتردد في طرح رأيي، لأسباب عديدة، اهمها ان لا أبرز كمثقف سلبي لا يعجبه العجب ، حيث صار الرأي الصريح يعتبر من السلوكيات السلبية قي ثقافتنا.
لا أتحامل على الزملاء في مجمع اللغة العربية بل احمل لهم احتراما وتقديرا كبيرين، انما لي موقف من دور مجمع اللغة العربية في الواقع العربي داخل اسرائيل، والدوافع لإقامته، وهذا لا علاقة مباشرة لهم به.
شكل اقامة مجمع اللغة العربية في اسرائيل ، خطوة ظاهرها الاعلامي (السياسي أيضا) يفوق قيمتها اللغوية.
اميل للإقتناع ان فكرة انشاء مجمع اللغة العربية نشأت عن رغبة الوزير السابق للثقافة والرياضة غالب مجادلة، لتسجيل انجاز ما باسمه، حيث ان نشاط الوزارة الثقافي في الوسط العربي اختصر تقريبا بالدور الكبير الذي قامت به دائرة الثقافة العربية بادارة نائب مدير عام وزارة الثقافة موفق خوري، حتى عندما اقدم الوزير مجادلة على زيادة عدد الحاصلين على جوائز الإبداع الأدبي التي توزع كل سنة على أدباء العربية، تبين ان مجادلة حولها لمهزلة شكسبيرية ، اذ ظلت الميزانية نفسها من حيث المبلغ ( ولا قيمة لها الا قيمتها النقدية) وبدل ان توزع على عشرة ادباء كما كان متبعا بقيمة 70 الف شيكل لكل جائزة، قسم المبلغ على عشرين اديب وفنان، بمبالغ بعضها ما دون ال 30 الف شيكل لدرجة ان بعض الفائزين اعادوها للوزير. قام الوزير بنشاطات اعلامية أشبه بمهرجانات سياسية، لا اعرف ما يربطها بالنشاط الثقافي، حتى توزيع الجوائز جرى في الناصرة العليا اليهودية وليس في الناصرة العربية، او أي بلدة عربية اخرى. حتى الدعوة للوجبة الفاخرة لم تصل الى الأدباء، وربما كانت شفهية للبعض و"هنا الخسارة الكبيرة"!!
لا بد من التذكير بالخلفية التي سادت انشاء مجمع اللغة العربية، من هنا اضيف اولا، ان قبول السيد غالب مجادلة لمنصب وزير الثقافة، كان بعد استقالة الوزير السابق اوفير بينيس اليهودي ، الذي استقال احتجاجا ورفضا للجلوس في حكومة ضمت لصفوفها العنصري المستوطن افيغدور ليبرمان، فهل قبول وزارة بهذه الظروف يعتبر مكسبا سياسيا، ام له تسمية سياسية أخرى؟!
هذه هي الأجواء التي سادت عشية تأسيس مجمع اللغة العربية، لا اقول انها خطوة مرفوضة، ولكنها خطوة اعلامية اكثر مما هي خطوة حضارية وحقوقية. مشكلتنا ليست في اقامة مجمع يبحث في المفردات ويقارع التخلف العربي للمجامع بتخلف جديد. ان قرار اقامة مجمع اللغة العربية كانت له دوافع ذاتية وسياسية، تفوقت على ضروريات الواقع اللغوي. ومع ذلك لا بأس . السؤال، ماذا بعد؟ الى اين وصل مجمع اللغة العربية؟ ماذا أنجز؟ ما هي مهماته الأساسية؟ هل ترجمة الاصطلاحات اللاتينية باصطلاحات ميتة ولا يطيقها اللسان ولا العقل، أسوة باشقائه من مجامع العالم العربي هو ما ينقص لغتنا العربية في اسرائيل؟
من متابعاتي لنشاط مجمع اللغة العربية، لا أجد شيئا يمكن اعتباره خطوة عملية لرفع مكانة اللغة العربية في الواقع الإسرائيلي، خاصة في مجال تدريس اللغة ونشر الوعي اللغوي، في مجال تأكيد قيمة اللغة للهوية الوطنية لأبناء شعبنا. في ملاحقة تجاهل السلطة لكون اللغة العربية هي لغة رسمية ثانية في الدولة، في التوجه للوزارة ليكون المجمع اللغوي مسؤولا عن اللغة العربية التي تظهر في اشارات السير والإعلانات والترجمات الرسمية بشكلها المشوه والمذل للغتنا ولشعبنا.
رأيي ان تخصيص ميزانية المجمع لتطوير تعليم اللغة العربية، باساليب حديثة، يفيد اكثر من التقعر والبحث عن اصطلاحات، تظهر المجمع أشبه بقاعة العاب "ليغو" لغوية. اذا لم تنفع لغتنا مجامعها الكبيرة في القاهرة والشام والعراق ، فهل سينقذ مجمع اسرائيل الوضع اللغوي العربي؟ الا يعلم الزملاء الأعزاء المشغولين بايجاد وتعريب المصطلحات، ان واقع اللغة هو انعكاس للواقع السياسي والاجتماعي ، وتغيير هذا الواقع هو ما يطلق عملية احياء اللغة، اسوة بما جرى مع شقيقتها اللغة العبرية؟
قديما قال ابن خلدون جملته العبقرية التي نعيش صحتها كل يوم:" لغة الأمة الغالبة غالبة، ولغة الأمة المغلوبة مغلوبة". وما دمنا من الأمم المغلوبة امام التحديات في الشرق الأوسط (وليس عسكريا فقط) تحديات الأنطمة الفاسدة التي تهدم ولا تبني، التحديات في العلوم والاقتصاد والتحديث الحضاري.. فلن تكون لغتنا الا على شاكلة شعوبنا، لغة مغلوبة لشعوب مغلوبة.
اعترف اني لست لغويا، ولكنها لغتي التي اتواصل فيها مع الناس حتى لو لحنت في بعض كلماتها. واعيش مشكلة لغتي عبر تعاملي اليومي، واطلاعي على ما يجري في لغات اخرى وخاصة اللغة العبرية.
لا اكتب من منطلق سياسي او قومي، بل من منطلق الألم لواقع لغة نعشقها ونتمتع بقدراتها التعبيرية، ولكن السؤال المقلق ليس بالكتابة الابداعية، في القصة او الشعر، بل في كونها لغة عاجزة عن التحول الى لغة علوم وتكنولوجيا (أي تقنيات، وانا افضل الاصطلاح اللاتيني). حتى في الكتابة الأدبية نشهد حالة عبثية من الصياغات المضحكة والمبكية في نفس الوقت. احيانا نقرأ ديباجة لغوية لا تعني شيئا الا انها تمرين لاظهار الشطارة، بلا معنى، وكأن جمالية الصياغة هي المضمون. هذا السجع اللغوي مصدرة سجع فكري وغيبية ثقافية لا تستوعب ان جمالية اللغة في ما تقدمه من فكر بوضوح وتألق وصياغة لا تعقيد فيها ولا ديباجة لا تقول شيئا مفيدا.
هنا نحتاج الى جهاز، ربما نسميه مجمع لغة عربية، يقوم على رصد استعمال اللغة، وتصحيح الخلل الفكري في فهم مهام اللغة. مثلا كيف يمكن احترام صحيفة تنشر خبرا بعنوان :" اصابة سيدة من (اسبانيا) بعد ان لدغتها افعى" بماذا اصيبت السيدة بعد ان لدغتها الأفعى؟ في الواقع ان المراسل والمحرر وقعوا بخطأ لغوي وفكري مثير للسخرية. الأصابة هي اللدغة ويمكن صياغة العنوان باشكال مفيدة ومختصرة أكثر.
على من تقع مسؤولية الاستهتار باللغة؟
اسمعوا الاذاعات المحلية، فوضى رهيبة بلا رقابة. ليس ضمن المصطلحات السياسية فقط، او بالنحو ، بل بالصياغة السليمة للخبر، ولا اعني أخطاء القواعد تحديدا، بل الخطأ في تركيب الجملة كلها. المنتظر ان وسائل الاعلام هي مدرسة للصياغة الصحيحة. لماذا يصمت مجمع اللغة على واقع يعمق ضعفنا اللغوي ويثقف على تفكيك اللغة؟
صحيح انه امامنا ايضا تحديات اللغة العبرية التي تسيطر على اللسان العربي، لدرجة ان أكاديميين عرب يستصعبون التعبير بلغة عربية عن مواضيعهم الأكاديمية، خاصة اذا كانت حول مواضيع طبية، علمية، تكنولوجية واحيانا مواضيع اجتماعية. كذلك عشرات الاف العمال يتعاملون كل يومهم باللغة العبرية لدرجة ان اللغة العبرية أضحت تشكل نصف مساحة حديثهم في وسطهم العائلي أيضا.
اللغة العبرية تفوقت بتطورها على لغتنا العربية في المائة سنة الأخيرة . استعمالاتها أسهل وأبسط وانجع وتقريبا من الصعب الوقوع في خطأ. في الترجمة من الإنكليزية مثلا نجد مصطلاحات عبرية بسهولة، بينما لا نجدها في لغتنا العربية، حتى الترجمة من العبرية للعربية للمواضيع التربوية، وليس العلمية فقط، هناك صعوبة في ايجاد المصطلحات المناسبة، اعرف هذا من تجربتي. بعض الترجمات العربية لا تقرأ لأن لغة الترجمة تحتاج الى ترجمة عربية أخرى. قراءة المواضيع العلمية او الفلسفية ابسط وأسهل باللغة العبرية او اللغات الأجنبية. وكثيرا ما أضعت ساعات وانا ابحث عن معنى مصطلح فلسفي مثلا.
ربما من يقول ان هذا لا يخص مجمع اللغة العربية. ما لم يتوصل اليه العرب في مجامعهم لن نتوصل اليه في اسرائيل. لبنان حلت المجمع لتستعمل الأموال فيما يفيد، لا نريد مجمع لغوي عبارة عن منتدى للغويين لا يربطهم بواقع لغتنا العربية ومشاكلها العينية داخل اسرائيل أي رابط.
ان اصدار مجلة ومفكرة ومؤتمرات، لا يترك أي أثر على واقع لغتنا. ربما لو تحول المجمع الى جمعية ثقافية تصدر مجلة ومطبوعات لكان دوره أفضل .
مشكلة لغتنا العربية أبعد من قدرة مجمع اللغة في اسرائيل على التأثير على مجمل واقع اللغة العربية في العالم العربي. رأيي ان اللغة هي انعكاس للواقع السياسي الاجتماعي. وتطورها مرتبط بواقع التطور بمجمله. غياب التحولات العاصفة في العالم العربي، وصعود قوى سلفية الى رأس السلطة سيعمق اشكاليات اللغة. اللغات التي تسود عالمنا اليوم هي لغات شعوب منتجة للحضارة عبرت عصور التنوير والثورات الصناعية والعلمية منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي.. اللغات التي تواجه خطر الاندثار هي لغات شعوب خارج تاريخ الحضارة الحديث. هنا الخطر الكبير وليس التشاطر بايجاد تعابير تلد ميتة أصلا.
ليت اهتمام مجمع اللغة العربية ينصب على وضع رؤية حداثية لتعليم اللغة العربية وتطويرها في مدارسنا. ولا ارى عيبا في استعمال المصطلحات كما تردنا من الحضارات التي اوجدت تلك المصطلحات.
ـــــــــــــــ
ملاحظة: قبل نشر مقالي بتوسع قرأت رد مجمع اللغة العربية في اسرائيل، حيث يوضحون العديد من القضايا ، هذا ايجابي بحد ذاته، هو حقهم الطبيعي، لكني ، كما سجلت حدة مقال محمود ابو رجب، وجدت رد المجمع أيضا يحمل الحدة نفسها ويضاعفها حين يذهب للتهديد بالقضاء.
ان التعبير عن الراي هو أمر مقدس يجب احترامه. لا تهمني التفاصيل الشخصية التي طرحها ابو رجب، وليس هي ما يشغلني، ونثق ان اعضاء المجمع وكادره هم من الغيورين على اللغة العربية والثقافة العربية ولا ينتظرون أجرا لذلك. وكان أفضل لو تمحور رد المجمع حول الحقائق بدون التلويح بالقضاء، الذي يجعل الخلاف الفكري والنقد مسالة عداء لن تقدم ولن تؤخر في مكانة المجمع ونشاطه.
ان حرية الرأي يجب ان لا تتحول الى ساحة صراع قضائي، ستلحق الضرر بالجميع، وسيصبح كل خلاف للرأي له ساحته القضائية، هذا لن يكسب المجمع او الثقافة العربية في اسرائيل قيمة نطمح اليها جميعنا.
ان تفنيد موقف بموقف مضاد هو حق طبيعي. آمل ان يكون التهديد بالقضاء زلة قلم غاضب ، كل انواع التهديد لا تليق بالثقافة والمثقفين، المؤسسة قادرة على الرد وطرح الحقائق كما تراها، والجمهور هو أفضل حكم !!
رجاء ان تعطوا درسا في التعالي عن التوافه التي لن تضيف لأحد أي قيمة ثقافية ، ولو كان ردكم بلا تهديد قضائي لكان أقوى وأعمق أثرا!!