في غزةَ خوفٌ مفقود ونصرٌ موعود

د.مصطفى يوسف اللداوي

في غزةَ خوفٌ مفقود ونصرٌ موعود

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

لستُ مبالغاً في كلامي ولا مغالياً في وصفي، ولستُ مدعياً أو مختلقاً، أو محاولاً تزيين الصورة وتجميل الواقع، إنما أنا شاهدٌ عيان، أنقلُ ما رأيتُ، وأصورُ ما شاهدتُ، ولا أزيدُ شيئاً عما رأته عيناي، وسمعته أذناي، وإن كان ما رأيتُ أدهشني وأثارَ استغرابي، وأشعرني بالكثير من الغيرة والغبطة، إذ أن ما عرفتُ قد أسعدني وطمأنني، ودفعني لأن أسأل وأستفسر لأعرف المزيد، وأطمئن أكثر إلى دقة وصحة ما عرفت، فلا أُغبنُ بإجابة، ولا أُخدعُ بمتحدث، فسألتُ الكبار وجلستُ مع الأطفال الصغار، فهالتني كلماتهم، وصدمتني نفسياتهم، والطريقة التي يعبرون بها، وخرجت بنتيجةٍ واحدة أكيدة، أن هذا الشعب شعبٌ جبارٌ عنيد، مقاتلٌ صنديد، يتوارثُ القوة والجسارة، ويتعلمُ الجرأةَ والشجاعة، فلا يعرفُ الخوفَ، ولا يخافُ من الموت، ولا يفرُ من المواجهة، ولا يهربُ من التحدي، ولا يتردد إذا عزم، ولا يتقهقر إذا مضى، ولا ينقلب على عقبيه مهما كانت قوة الخصم ووحشيته، ما أرعب العدو وأخافه، وأربك حساباته ومخططاته، فهذا شعبٌ له ألف رأسٍ ورأس، فلا يموت مهما قطعت منه رؤوسٌ وانحنت منه هاماتٌ، فلا إرادةً فيه تنكسر ولا رايةً له تسقط، ولا مطالباً منهم بحق يسكت.

على مدى الشهرين الذين قضيتهما بفرحٍ وسعادةٍ غامرة في غزة، غارت الطائرات الإسرائيلية مراراً على مناطق عديدة في القطاع، وقصفت في الليل والنهار بصواريخها مواقع ومساكن وساحاتٍ، فقتلت ودمرت وخربت، وأطلقت دبابات الاحتلال حمم قذائفها على قلب القطاع وأطرافه دونما اشتباكاتٍ أو قتال، وإنما بقصد الضرر والإيذاء، فيما تسميه سلطات الاحتلال أنشطة اعتيادية يومية لجيشهم الغاصب.

وفي الليل حيث الظلام الدامس في بعض مناطق القطاع نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، وحيث الهدوء يخيم على السكان الذين خلد بعضهم إلى النوم، كانت صواريخ الاحتلال وقذائف دباباته تمزق بوحشيةٍ صمت الليل، وتزلزل أرض القطاع، فيسمعُ دويَّ الانفجاراتِ كلُ السكانِ من رفح حتى بيت حانون، في الوقت الذي تسارع الإذاعات المحلية بنقل تفاصيل القصف والإغارة، مكانه ونتائجه وآثاره.

سمعتُ القصف مراراً، وشهدتُ الغارات كثيراً، انتفضتُ في مكاني، تخليتُ عن كل شئٍ حولي، تركتُ أوراقي وجهازي، ألقيتُ بقلمي ودواتي، ودارت عيوني في محاجرها حيرةً، بصمتٍ ودون كلماتٍ تساءلتُ أين القصفُ، ماذا جرى ولماذا، ولكن الكلمات في فمي تجمدت، ولم أقوَ على البوح بما أرغب، ولم أستطع توجيه السؤال إلى أحدٍ، وشعرتُ بخجلٍ كبير، واستحييتُ من نفسي وحاولتُ أن أتمالكَ أعصابي وأبدوَ مثلهم، ثابتاً غير خائف، واثقاً غير قلق، إذ رأيت أطفالاً يلعبون فما توقفوا، وآخرين يركضون وراء بعضهم فما التفتوا، ومنهم من يركب دراجته الصغيرة، أو يحاول لملمة ألعابه وأغراضه وكأنه لم يسمع شيئاً، في الوقت الذي رأيتُ فيه آخرين حول موائد الطعام متحلقين، بعضهم يمسك كسرة خبزٍ لم يتوانَ عن مضغها وابتلاعها، وآخر لم تسقط منه ملعقته، منهم من استطاع أن يقرأ أفكاري وقد أدركَ حقيقةَ نفسي، فقال لي مطمئناً، بكلماتٍ بسيطة، وثقةٍ كبيرة، لا تقلق فقد اعتدنا على "دباتهم" اليومية، وعاد إلى مزاولة عمله واستئناف ما كان فيه.

لا يعتقدن أحدٌ أن الفلسطينيين لا يحبون الحياة ولا يحرصون عليها، وأنهم يتمنون الموت ويسعون إليه، ولا يهمهم أن يموتوا قصفاً أو غرقاً، موتاً على الفراش أو قتلاً في المواجهات والاعتداءات، يأساً من أوضاعهم، وحزناً على أحوالهم، وفراراً من واقعهم، ولهذا فهم لا يكترثون بقصفٍ ولا يخافون من غارة، ولا يتراكضون أو يتدافعون عند القصف مخافةً من الموت، إذ ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت أنفاسهم وتحشرجت أرواحهم لسوء وبؤس ما هم فيه.

بل إنهم يحبون الحياة ويقبلون عليها، ويعملون الكثير من أجلها وكأنهم يعيشون أبداً، ويخططون لغدهم ومستقبل أطفالهم، يسافرون ويعودون، يروحون ويجيئون، يفرحون ويتزوجون، يتوالدون ويتكاثرون، فهم أثناء القصف وبعده يواصلون عملهم، ويستكملون بنيانهم، ويعودون إلى مدارسهم وجامعاتهم، ويستأنفون ما بدأوه من أعمالٍ ومشاريع، فلا السيارات تتوقف، ولا المحلات تغلق أبوابها، ولا المارة يهربون ويتخفون، ولا المدارس والجامعات تقفل، ولا شئ مما يتوقعه ويأمله العدو منهم يكون.  

في الوقت الذي انقرضت فيه معاني الخوف والجبن والهلع لدى الفلسطينيين، فإن اليقين لديهم بالنصر لا يتزعزع، وإيمانهم بالتحرير الكامل لا يضعف، فهم لا يرون في عدوهم قوةً لا تقهر، وجيشاً لا يهزم، وإرادةً لا تلين، وقادةً لا يعرفون المستحيل، بل يرونه ضعيفاً خائفاً، متردداً جباناً، يبحث عن السلامة، ويتطلع إلى الأمن، ويخشى على مستوطنيه من القتل، ويقلق على اقتصاده من الانهيار، وشعبه من الإحباط، فلا قوة داخلية لديه، ولا منعةً نفسية لدى شعبه، ولا إرادة قتالٍ حقيقة عنده، فهو لا يقاتل إلا من وراء جدر، ولا يقصفُ إلا من علٍ، ويدرك أن زمن اجتياحه للأرض قد ولى، فلا قدرة لديه على إخضاع السكان، وفرض إرادته عليهم، ومنعهم من المقاومة والقتال، ويخطئ أكثر إذا اعتقد أن هذا الشعب قد تخلى عن عناده، وتنازل عن ثوابته، وأنه قد كسر سيفه، وترجل عن جواده، ونسي أن خريطة بلاده حدودها البحر والنهر.