أخونة الصين!
أخونة الصين!
أ.د. حلمي محمد القاعود
في زيارته للصين الشعبية أواخر الشهر الماضي ، انطلقت على صفحات التواصل الاجتماعي بعض النكات التي تعالج المصطلحات التي تنشرها الثورة المضادة وخدام النظام السابق في حربهم الإعلامية الشرسة ضد إرادة الشعب والاختيار الديمقراطي الذي حكمته صناديق الانتخابات ، وكانت لفظة "الأخونة " في مقدمة المصطلحات التي نالها كثير من السخرية والتهكم بحكم ما تمثله من خيال جامح لا يمت بصلة للواقع ، وكراهية مقيتة للثقافة الإسلامية التي تتجذر في الوجدان الشعبي ، واعتقاد من أطلقوها أن جماعة الإخوان المسلمين ستضم التسعين مليونا من المصريين إلى عضويتها ، وتقضي على تعددية المجتمع وألوانه الفكرية والثقافية والإيمانية ، بينما الواقع يقول إن الجماعة لا تستطيع أن " تأخون " شارعا من شوارع القاهرة قبل أعوام طويلة ممتدة ، فضلا عن وجود الدولة القوية التي يصعب تغييرها – وفق ما توصلت إليه الدكتورة هالة مصطفى في مقالها (الأهرام 30/ 8 / 2012م ) - وإن كان ذلك لا ينفي أن أصحاب المصطلح يعترفون ضمنا بقوة الإخوان وقدرتهم التنظيمية وقبول الناس الطوعي لهم لأنهم لا يملكون سلاحا ولا مالا ولا سلطة تفرض وجودهم على الناس ، وإنما يملكون فكرة واضحة وخطة معلنة أقنعوا بها الناس فانتخبوهم بإرادتهم الحرة ، ودون أكياس السكر وزجاجات الزيت كما ادعى من ادعى بدليل نسبة التصويت العالية لهم خارج مصر ، حيث لم تكن هناك شبهة توزيع سكر أو زيت على الناخبين .
قال لي أحد أقاربي إنه قرأ على مواقع التواصل الاجتماعي إن طفلة صينية قدمت إلى الرئيس المصري عند استقباله في المطار باقة من الزهور فشكرها الرئيس وقبّل جبينها ، فانتفض أنصار النظام البائد قائلين : لا لأخونة الصين ! ابتسمت ، وأيقنت أن الشعب المصري بسخريته اللطيفة يستطيع أن يفحم أولئك النفر ممن احتكروا لأنفسهم لقب مثقفين ، ويدحض مقولاتهم ، وينسف إصرارهم على أن تكون الدنيا لهم وحدهم ، تخضع لآرائهم ، وتسمع لمقولاتهم ، وتصدق أكاذيبهم ..
لقد أفرزت مرحلة الحكم العسكري البوليسي الفاشي على امتداد ستين عاما نفرا من الكتاب ، خدموا الحكام الثلاثة ( جمال عبد الناصر ، أنور السادات ، حسني مبارك ) ، وارتضوا الخضوع للبيادة ، وتلونوا حسب اتجاه الريح ، وتغيروا من وضع إلى آخر وفقا للمطلوب ، وباسم الثورية والتقدمية والنضال نعموا برضا النظام المستبد الفاشي ، ونفذوا سياسته الإقصائية الاستئصالية ، وحاربوا الثقافة الإسلامية في التعليم والإعلام والحياة العامة ، وجعلوا من ينتسب إلى هذه الثقافة – ثقافة الأغلبية الساحقة لكل أطياف المجتمع - مثل البعير الأجرب الذي تبعده القبيلة حتى لا يُعدي بقية القطيع !
على مدى ستين عاما عرفت البوابة السوداء ألوف المثقفين الإسلاميين الأصلاء الذين قبعوا وراءها دون محاكمات أو حوكموا محاكمات ظالمة ، وذاقوا أبشع ألوان التعذيب والإذلال التي أفضت إلى الموت أحيانا ، وكان منهم علماء فضلاء وكتاب عظام وأدباء كبار ودعاة مخلصون وشباب محب لوطنه غيور على دينه ، فضلا عمن علقوا على المشانق لأنهم رفضوا الانحناء للطغاة أو القبول بمنهج الاستبداد ، وشهدت سجون الطغيان تسجيل نماذج أدبية رفيعة لكتابات هؤلاء المثقفين الإسلاميين الضحايا . منها على سبيل المثال : في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب ، ورحلة إلى الله للراحل نجيب الكيلاني ، والبوابة السوداء لأحمد رائف ، وما كتبته أمينة وحميدة قطب وغيرها ، وفي ظل التعتيم والتهميش كان هناك مثقفون يعملون وينتجون ويعيشون في الشارع مع الفقراء والكادحين والبائسين يمنحونهم الأمل ، ويبثون فيهم روح المقاومة والإصرار والثبات ضد هجمات القبح والتسطيح والابتذال التي يقودها كهنة آمون ( مثقفو السلطة وخدام النظام ) الذين رفضوا كل ما هو قيم ومضيء وأخضر .. لقد صنع ذلك خميرة متجددة أسهمت في الثورة المصرية العظيمة التي أذهلت العالم في يناير 2011 .
كان الأمل بعد الثورة أن يتوارى كهنة آمون عن الأنظار خجلا من مساندتهم المشينة للنظام البوليسي الفاشي ، وأنانيتهم الوحشية ، وإقصائهم العدواني لغيرهم ، ولكنهم – يا للعجب !– ارتدوا ثياب المصلحين ، وراحوا يتباكون على انهيار الثقافة ، ويزعمون أن الثقافة أصيبت بالعجز والتخبط والتبعية وتراجعت بشدة في العقود الثلاثة الأخيرة كما تراجع النشاط الوطني في كل المجالات ليحل التكفير محل التفكير, والنقل محل العقل وتحل الجماعات الدينية محل الأحزاب السياسية, وتحتجب المنابر الثقافية, ويستولي الإخوان علي السلطة!
هكذا مرة واحدة يتحول الضحية إلى مجرم ومتهم وظالم ! أما من يستحق العقاب والمساءلة فقد صار بريئا بعد ثلاثين عاما من خدمة المؤسسة الديكتاتورية الفاشية! يصعب على المراقب المحايد أن يصدق هذا التخليط العجيب ، وأن يرى في دموع التماسيح حزنا حقيقيا على ثقافتنا التي انهارت بأيدي كهنة آمون ، الذين احتكروا لأنفسهم مناصب الوزارة ومنابرها ومؤتمراتها وجوائزها وسفرياتها وجلسات الأنس مع الرئيس البطل صاحب الضربة الجوية ثم مسامرته حول أسعار الطماطم !
كهنة آمون الذين سمنوا حتى بشموا يتحدثون عن طغيان من يتحدثون باسم الله أو ينوبون عنه ، هذا الطغيان الذي سيكون من - وجهة نظرهم - وحيا منزلا أو قضاء وقدرا لا يمكن دفعه أو مناقشته ولا مفر أمامه إلا التسليم. وسيعتمد – كما يزعمون – على الأسلحة المحرمة ابتداء من الرقابة والمصادرة إلي الفصل من العمل والتجويع والتشريد إلي الرشوة والترويض والاعتقال والاغتيال. هكذا يرى كهنة آمون ما سوف يأتي من زمن الإسلاميين الذين لم يحكموا بعد، ولم يعين منهم وزير للثقافة ينحاز إلى ثقافة البلاد وهويتها ، ولا يوجد في دينهم ( الإسلام ) من يتحدث أو يجرؤ أن يتحدث باسم الله أو ينوب عنه ..! الكهنة يحكمون على النوايا خوفا على زوال امتيازاتهم, وأول هذه الامتيازات فرض الوصاية على ثقافة الأمة ومستقبلها ، وازدراء إرادتها ورغبتها . لقد تناسوا أن الشعب يرفض تيار التغريب ولا يقبله .
المنطق الكهنوتي الذي عاش ستين عاما على حجر الاستبداد والعار ، ونَعِم بالصدارة والهيمنة ؛ لا يتصوّر أن يشاركه أحد في العمل الثقافي أو خدمة الأمة خدمة حقيقية تناغي مشاعرها وعواطفها ، وتُجلّي قيمها وأخلاقها ، وتقدم تاريخها ومآثرها ، مع أن ثقافة الأمة في حاجة إلى أن تنهض الأغلبية الساحقة لتعبر عن ثقافتها ، وأن تتشارك مع ألوان الطيف الثقافي في حوار خلاق دونما مصادرة أو استعلاء من جانب كهنة آمون !
إذا كانت أخونة الصين غير ممكنة ، فإن تغريب الثقافة الإسلامية مستحيل !