الثورةُ، وحاضنتُها الشعبيَّة

ريفُ إدلب الشماليُّ مثالاً

محمد عبد الرازق

يذكرُ الخبراءُ الاستراتيجيون، و المعنيُّون بأمر الثورات الشعبية، و حروب العصابات أنَّ أحد أهمّ أسباب نجاحها يتمثّل في الاحتضان الشعبي لها، و يدللون على صدق ما يذهبون إليه بما كان في كوبا، و فيتنام.

و في الشأن السوري يُذكر الكلامُ نفسُه أيضًا؛ فما من امتدادٍ للحراك الثوري في بيئة إلاَّ و وراءه حاضنة شعبية قوية تؤازره، و تمدّه بشتى أنواع الدعم ( ماديًّا، و معنويًّا )، و الأمثلة على ذلك أكثر من الحصر.

 و يمكن لنا أن نقف على نماذج منها من ( ريف إدلب الشمالي )؛ كونها المنطقة اللافتة للنظر في سرعة انعطافها نحو تأييد الثورة بعد أن كان النظام قد اطمأنَّ إلى هدوئها بعد معالجات أمنية قاسية بحق أبنائها في حقبة الثمانينات.

و في هذا الصدد يمكن لنا أن نقسم الغالبية السكانية في قرى، و بلدات هذه المنطقة ـ بحسب مواقفهم من النظام ـ على خمس فئات:

فئة ما تزال على موقفها السلبي منه؛ تأثرًا بأحداث حقبة الثمانينات.

فئة الحزبيين المثقفين، و المتنورين، المصنَّفين بأنهم من أنصار التحديث، و التطوير في الحزب.

فئة الجهلة، و محدودي الثقافة، و التعليم، المجندين لصالح الأفرع الأمنية ( الشبيحة ). 

فئة ما تزال ترى في هذا النظام أمرًا واقعًا، و هي مغلوبة على أمرها، و هي مرتبطة به ما دام له الهيمنة.

فئة غلبت عليها مصالحها؛ فهي تدافع عنه طمعًا في بقاء ما تجنيه من مكاسب مادية أوجد لها النظام أسبابها.

و التمثيلُ لهذه الفئات ليس أمرًا شاقًّا؛ إذْ يمكن للمتابع أن يقع على أيٍّ منها دونما مشقّة، و عناء، فواقع الحال ما عاد يَضِنُّ بمثل ذلك. فالأمور في سورية، و في هذه المنطقة منها قد أزيحت عنها الحُجُب، و القبضة الأمنية الحديدية قد انكسرت من حول معاصمهم، و حُل الوثاق عن رقابهم؛ فما عادت الناس تتحرك في الاتجاه الذي تسوقهم نحوه الأجهزة الأمنية، و أدوات النظام الأخرى.

فما إنْ بدأت شرارة الاحتجاجات تصل إلى منطقة ريف إدلب الشمالي؛ حتى وجدنا طلائع (الفئة الثانية) من أبناء القرى، و البلدات تصرخ عقب صلاة الجمعة مطالبة بالحرية، و الإصلاح، و التحديث و التطوير في بادئ الأمر، ثمّ أخذت تتجه نحو المناداة بإسقاط النظام و تحديدًا بعد بدء الحملة الأمنية، و العسكرية عقب رمضان العام الماضي؛ فكان أن حرَّك النظام أدواته من (الفئة الثالثة) الشبيحة، متجاهلاً الرفاق الحزبيين؛ لأنه وجد عندهم تقاعسًا في تقبّل هذا النوع من المعالجة، و لاسيَّما بعد ما رأوْا قسمًا من رفاقهم الحزبيين قد انخرطوا في أعمال التظاهر، و قسمًا آخر أخذ يرفع الصوت بنقد النظام؛ بأنه لم يفِ بما وعد به في مؤتمرات الحزب من الشروع بالتطوير، و التحديث، و لا سيَّما في مؤتمر ( 2005م ).

و للحقّ، و الإنصاف نقول: إنَّ المثقفين من هؤلاء الرفاق قد فاجؤوا أبناء بلداتهم في مواقفهم المتوازنة؛ فلم يُؤثر عنهم رعونة، و سوء تصرف على غرار ما كان من رفاقهم في حقبة الثمانينات، التي باشروا فيها الأذى لأبناء بلداتهم طولاً، و عرضًا؛ فتركوا في النفوس جرحًا غائرًا لم تندمل آثاره بعد.

لقد أصبحت ترى منهم من يقود المظاهرات بعد أداء صلاة الجمعة، و هو المشهد الذي غاب عن الصورة في تلك الحقبة الأليمة، و تفسير هذا: أنهم صُدموا بالطريقة التي أمسك بها الأسد بالحكم، و صُدموا أكثر بالنكوث بالوعود التي قطعها على نفسه بالإصلاح، و التطوير (الرئيس الوريث)، ثمّ تفاقم الأمر عندهم لمَّا رأوه يعود إلى سيرة أبيه في معالجة الأمور بالحلول القمعية المفرطة؛ فأعاد ذلك إلى أذهانهم ما كانوا قد لمسوه، وما سمعوه من قصص تحكي الكثير من العذابات التي عانى منها أبناء مناطقهم.

و أصبحتَ تسمع في المجالس من آخرين منهم عبارات الامتعاض، و الاشمئزاز لما يقوم به النظام من أعمال هي أبعد ما تكون عن الإصلاح المنشود، الذي بشَّر به الرئيس الشاب (على حدّ وصفهم له).

لقد كان أكثر ما لفت الأنظار في هذه الفترة هو استعانة النظام بمحدودي الثقافة، و التعليم، و بالسُذج من أهالي تلك البلدات، و القرى، و زودهم بالسلاح، و أغراهم بالمال مقابل تصديهم للمظاهرات، و تتبع النشطاء، و كتابة التقارير عنهم، و عمن يخرج معهم في التظاهرات، و من يردد الدعوات للإصلاح، و التغيير. علمًا أنَّ جلّ هؤلاء لم يُعرف عنهم فيما هو معلن اِنتماءٌ إلى صفوف الحزب؛ فلم يكونوا من المترددين على الفِرق الحزبية، أو دافعي الاشتراكات، أو المسجلين في قوائم المنتخِبين.

لقد أحدثت الاستعانة بهؤلاء (الشبيحة) ردّة فعل سلبية تجاه النظام؛ لما رأته الناس من حُمقهم، و جرأتهم في حمل السلاح بوجه أقاربهم، و جيرانهم، و أبناء بلداتهم من المتظاهرين، و لما انكشف من قيامهم بكتابة التقارير الأمنية، و تحديدًا إلى فرع الأمن العسكري (سيء الصيت، و المعروف عند الناس بميوله الطائفية). و هو الأمر الذي يلقى استهجانًا من الناس، و يتحاشون إقامة علاقات ودّ مع مَنْ يُعرف عنه ذلك.

و بالطبع ليس كلّ من ظهر منه ميلٌ نحو النظام يوصف بأنه من هذه الفئة المرتبطة بالأمن، هذا الارتباط الوثيق لقاء أجر شهري كانت تتقاضاه. فهناك (الفئة الخامسة) الذين كانت مصالحه تدفعهم للقيام بمناصرة النظام على الملأ؛ طمعًا في ديمومة الحال على ما هي عليه؛ فلقد أوجد لهم طرقًا للكسب غير المشروع ما أسال لُعابهم، و أثراهم في وقت قياسي، فهم في ظروف يخشون ذهابها؛ فتذهب معها أحلامهم في الثراء، و تحقيق المُنى.

لقد عرف النظام فيهم هذا الشره نحو المال، فأمدهم بأسبابه؛ شريطة أن يكونوا من أزلامه، و مناصريه و بالمجان، اكتفاءً بما يكسبونه من المال الحرام في وظائفهم، و أماكن عملهم.

و من أبرز هؤلاء: المدراء، و رؤساء الأقسام، و أمناء الصناديق، و رؤساء لجان المشتريات، و المحاسبون، و الجُباة، و الحُجاب، و رؤساء الدواوين، و الموظفون المعروفون بالسُّعاة في تمشية المعاملات. ولاسيما من كان منهم موظفًا حلب في: البلدية، و الرقابة و التفتيش، و المالية، و مشاريع الكهرباء، و المياه.

هذا فيما يتعلق بالفئات الأربع غير الأولى؛ و السؤال: ما بالُ الفئة الأولى لم يُلحظ لها نشاط في بدء الأمر؟

: إنَّ ما مرَّ عليهم في أحداث الثمانينات جعلهم يلتزمون جانب الخوف، و الحذر من الاقتراب من أيّ نشاط يزعج النظام، و يمسّ باستقراره. و هم في ذلك سيَّان: من خرج منهم من السجن بعد سنين طويلة أمضاها في أقبيته، أو من رأى ما كان من هول تلك الحقبة، أو سمع عنها ممن عايشها، أو ممَّن كان قد عاد إلى القطر بموجب تسوية أمنية تعهّد فيها للأجهزة الأمنية بتقرير ممهور بخطه ( ألاَّ يعود إلى أي نشاط سياسي، أو حزبي يتصادم مع النظام، و لا ترضى عنه الأجهزة الأمنية ).

و بالتالي كانت هذه الفئة ( الأولى ) أبعد ما تكون عن المشاركة في التظاهرات، و الاقتراب منها، أو الخوض في أحاديث تنتقد النظام. غير أن الأمور قد تبدلت لدى كثير منهم، و أصبحوا مع مرور الأيام أكثر جرأة على إظهار قناعاتهم في تغيير النظام؛ ولاسيَّما بعد اجتياح كتائب النظام العسكرية، و الأمنية مناطقَهم، و إعاثته فيها: قتلاً، و تدميرًا، و حرقًا. و قد طال ذلك المؤيد، و المعارض، و المُسالمَ، و المُسلحَ على حدٍّ سواء.

لقد هامت الناس على وجوهها، و سعيدُ الحظّ منهم من وجد ملاذًا له في المخيمات داخل تركيا، و ما عاد يعنيهم أخبار من قُتِل من أبناء قراهم، و بلداتهم، و لا أخبار النهب، و الحرق، و التدمير التي أحدثتها كتائب النظام؛ فغاية المُنى عندهم أن يسلم المرؤ على نفسه.

لقد كانت هذه هي ساعة الفِراق البائن مع النظام؛ فبعدها تبدلت الأحوال، و ما عاد المتظاهرون يخشون من قِلّة، و ما عادت الشبيحة ترهبهم، و ما عاد حمل السلاح في السرّ يكون. إنّها الساعة التي خسر فيها النظام مواطئ أقدامه في عموم مُدن، و بلدات، و قُرى ( الريف الشمالي لإدلب ).

و بالطبع ليست الأحوال في هاتيك المناطق على حدٍّ سواء؛ فهناك مناطق حازت قصب السبق في كسر جدار الخوف، مثل: الجزء الشمالي من مركز المحافظة ـ حارة الضبيط ـ ، و معرة مصرين ـ ما عدا الشيعة في الحارة الجنوبية الملاصقة للجامع الكبيرـ و بِنِّش، و تفتناز، و كللي، و سرمين.

و هناك من لحق بهم سريعًا، مثل: زردنا، و كفر يحمول، و حزانو، و سرمدا، و حربنوش، و رام حمدان.

و أمَّا المناطق الأخرى فقد تأخرت إلى حدّ ما، مثل: شلخ، و الحلزون، و ترمانين، و إطمة، و عقربات، و دير حسان، و الدانا، و قاح، و صلوة.

إنَّ هذه المناطق كلها تمتاز بكونها سُنِّية، و قد أصبحت محررة، و خارج سيطرته، و أهلُها معارضون له بنسَب متفاوتة، لا تقل عن (90% )، و تدار شؤونها من قبل عناصر الحراك الثوري، و الجيش الحر، و مؤسسات المجتمع المدني منذ بداية العام الحالي، و النظام لا يجرؤ على اقتحامها، و الدخول إليها إلاَّ بالمدرعات المحمية بالطائرات. و هذا لا يؤشر على أنها قد عادت إلى سيطرته ثانية بحسب ما يرى الخبراء العسكريون، و قد تعززت سيطرتهم عليها بعد معركة باب الهوى الأخيرة في منتصف آب الماضي، التي تمَّ بموجبها تحرير عموم المنطقة الشمالية بعد اقتلاع كتيبة الدبابات التي كانت ترابط في باب الهوى القديم.

بقي أن نشير إلى دور مكونين طائفيين من هذه الثورة، و إلى مشاعرهم، و فعالهم مع أبناء المنطقة في أثناء الحملات التي يجتاح فيها النظام بيوتهم، هما:

أبناء الطائفة الدرزية، و هم متواجدون في خمس عشر قرية في الجبل، هي: بنابل، و قلب لوزة، و بشندلنتي، و كفركيلا، و عبريتا، و جدعين، و بشندلايا، و كفرمارس، و تَل تيتا، و حِلِّي، و كُكُّو، و الدوير، و عرشين، و كفربني. وفي السهل ثلاث، هي: كفتين، و بيرة كفتين، و معارة الأخوان.

أبناء الطائفة الشيعية، و هم متواجدون في ثلاثة مناطق، هي: الفُوْعة، كَفَريَا، الحارة الجنوبية في معرة مصرين، المتاخمة للجامع الكبير.

فيما يتعلق بالدروز فهم في غالبتهم يتناغمون مع مواقف الزعيم الدرزي اللبناني ( وليد جنبلاط )، و بالتالي فإن مواقفهم من الثورة إيجابية، و كان لهم مشاركة رمزية قام بها الأستاذ عبد المجيد شريف في إحدى مظاهرات بلدة كللي، وألقى كلمة تضامنية عبر فيها عن مواقف الدروز بشكل لا لبس فيه.

و قد قاموا باستقبال النازحين من القرى المجاورة بعد معركة باب الهوى الأخيرة، و أرادوا أن يتعدى دورهم مجرد فتح البيوت، غير أن القائمين على أمر الحراك الثوري، و لاسيما في ( كللي ) طلبوا منهم أن يكتفوا بالمساندة، و المؤازرة في هذه المرحلة.

و أمَّا الشيعة فإنَّ النظام قد أوقعهم في شرك الطائفية الذي يلعب على حباله؛ فانساقوا وراء مخططاته، و كان لهم نصيب من عمليات التشبيح، و المهاجمة للقرى و البلدات المجاورة، و يعدّ حاجز ( كَفَريَا ) على طريق باب الهوى الدولي من الحواجز المزعجة لأبناء المناطق التي تقصده.

و هناك مساعٍ لتحييدهم حفاظًا على مصالحهم، و مراعاة لحسن الجوار؛ فهم بقعة وسط بحر متلاطم من أهل السُنَّة، و ليس من الحكمة أن يُسِيؤوا لهم؛ فإمَّا أن يكونوا مع الحراك الثوري كأبناء الطائفة الدرزية، أو أن يقفوا على الحياد، و بخلاف ذلك فإنّهم يقامرون بمصالحهم؛ فالنظام زائل، و الثورة منتصرة، و العاقل من تبصَّر في عواقب الأمور قبل أن تقع.

هذه هي صورة الحاضنة الشعبية للثورة في ريف إدلب الشمالي، و هي مبشرة بالخير، و تدعو إلى التفاؤل، فهي تميل بشكل لا لبس فيه إلى صالحها، و يقينُنا أنها لن تكون على غير ذلك مستقبلاً.