عيد الجلاء 17 نيسان
عيد الجلاء 17 نيسان
محمد عطا جذبة
صور من الذاكرة
احتفالات في عام 1960
و من سنوات سبقت ذلك التاريخ
* رجعت بي الذاكرة إلى سنوات ارتفع عددها لأكثر من خمسين سنة ، لا أدري سبب هذا الرجوع الزمني !! هل ذاكرة الفتيان أشهر تصويراً و أدق تعبيراً و أكثر انفعالاً و أروع عاطفة ؟ هل للجمال سحره ؟ هل للصدق سهامه ؟ هل للحرية ملاعبها ؟ أكرر .. و أقول .. لا أدري ...!!
* الحرية نبع القلب ، من دفن الحرية فقد دفن قلبه ، فرنسا المستعمرة دفنت السوريين في بيوتهم و في شوارعهم ، فرنسا طغت و بغت ، و كان الجنرال الفرنسي بيده مفاتيح الظلم .
و استرد الشعب السوري كرامته في 17 نيسان 1946 .
* عندما يشرق شهر نيسان ، و يتقدم على فرسه شاهراً سيف جماله ، ينحني شهر آذار و يلف عباءته على يده ، و يهرب مع ظلمة الليل ، من بداية ذلك الصباح تبدأ الاستعدادات للاحتفالات بعيد الجلاء شعبياً و رسمياً ، فالمدارس تكاد الدراسة أن تتوقف لأن فرق الكشافة و اللاعبين سيشاركون في المهرجانات و الاحتفالات ، و الطلاب المشاركون يحتاجون إلى تدريب ، و هناك عدة تجارب لصلاحية المهرجان (بروفات ) ، المدارس الابتدائية للبنات لديها فرق كشفية تشارك في العرض تسمى ( مرشدات ) ، مدينة حلب لا يزيد سكانها في ذلك الوقت عن ( 600 ) ألف ، بينما عدد سكانها الآن يتجاوز ( 3 ) ملايين ، و كان في حلب ( 3 ) مدارس ثانوية للبنين و ثانويتان للبنات .
* الآباء و الأمهات في تلك الفترة الزمنية رأى كل واحد منهما المستعمر الفرنسي ، و يروي قصصاً عن ظلمه و بطشه بالأحرار ، و تكثر السهرات في تلك الفترة و الناس يتناقلون بطولات المجاهدين أمام الجيش الفرنسي المستعمر ، المجتمع بالكامل ينصهر بالوطنية و حب الوطن . و تتعالى النشوة بالأمجاد و البطولات ، كثير من أفراد الأسر شارك في مقاومة المستعمر الفرنسي .
الأب لا يمنع أولاده من المشاركة في مهرجان عيد الجلاء ضمن الفرق الرياضية و الكشفية للمدرسة ، و تأخذ الأم موافقة زوجها المتعصب في خروج زوجته للأسواق ، لأنها تريد أن ترى ابنها أو ابنتها في المهرجان في قوافل المدارس ، و الزوج يوافق لزوجته بالخروج لأن عيد الجلاء مناسبة وطنية غمرت قلوبهم بالحرية ، و تمني الأم أولادها الصغار و لو كان عمر الواحد ثلاث سنوات أو أكثر بأنها ستأخذه من الصباح ليشاهد العروض الجميلة ، سكان العمارات التي سيمر من أمامها فرق المهرجان يقومون بدعوة أقاربهم إلى المجيء عندهم من الصباح لرؤية المهرجان ، حتى يبتعدوا عن الوقوف في الشوارع ، صباح يوم عيد الجلاء الحافلة (الترام) واسطة النقل لا تتحرك من بيتها ، فطريقها من السراي الجديدة إلى الجميلية تتوزع فيه الفرق المشاركة بالمهرجان ، الباعة المتجولون يجهزون أنفسهم ، في هذا اليوم يتضاعف بيعهم و تزداد مكاسبهم .
* في صباح يوم 17 نيسان ، تستيقظ المدينة باكراً منذ الفجر ، تأخذ الفرق العسكرية و الكليات العسكرية و القطع العسكرية مواقعها ، و كل فريق مشارك في المهرجان يحتل موقعه .
هناك تجمعان للفرق المشاركة ، أحدهما بدايته من عند مخفر باب الفرج و نهايته عند السراي الجديدة ، و الآخر بدايته من بداية التلل عند مقر النادي السوري و نهايته إلى آخر النيال أو الحميدية .
تقام منصة - سرادق خشبي كبير - في ساحة سعد الله الجابري يتواجد فيها المسؤولون في حلب و مدراء الدوائر الحكومية و قناصل الدول المعتمدة في حلب و أشخاص تلقوا بطاقات دعوة و مشاركة .
قبل بداية المهرجان يمر آمر العرض العسكري على القطع العسكرية المشاركة بسيارة مكشوفة و عندما تنتهي جولته يبدأ العرض العسكري على فرقة موسيقى الجيش و تظل الفرقة تعزف حتى نهاية المهرجان .
جماهير شعبية على جانبي طريق المهرجان صفوف متراصّة من الرجال و النساء و الصبيان و البنات ، جاؤوا ليتمتعوا بهذا المهرجان ، و خلف الحشود الشعبية يقف الباعة المتجولون هناك من يبيع الفلافل و الهريسة و الكعك و السوس و التمر الهندي و العيران و البزر و القضامة .
و تحوم الطائرات فوق سماء حلب تحمل السعادة بفرح عيد الجلاء ، الحشود الشعبية تصفق لكل فرقة مشاركة في العرض ، و ترتفع أصوات من الحشود الشعبية تنادي أبناءها المشاركين في العرض ، المشارك في العرض تُعْلِمُه أمه أو يعلمه أبوه أنهما قد شاهداه ، حتى تدخل السعادة إلى نفسه ... و يشارك في المهرجان المحاربون القدماء و الثوار الذين اشتركوا ضد الفرنسيين ، و لجان الأحياء الشعبية و تشترك فرق الرقص الشعبي ، لها محطات تقف فيها لتؤدي عروضها و يؤدي أفرادها المبارزة بالسيف و الترس ، و يشترك في المهرجان عنترة و عبلة على جملين كرمزٍ للفروسية العربية ، و تؤدي عبلة بعض الرقصات على ظهر الجمل ، الجماهير التي حضرت المهرجان أصواتها لا تنقطع فرحة مستبشرة ، و التصفيق و الصفير مستمر مع كل فرقة مشاركة .
ينتهي المهرجان و السعادة ملأت قلوب الناس ، هناك من عاد إلى بيته ، و هناك من تواعد مع أولاده في اللقاء في الحديقة العامة أو في السبيل ، أو ذهب الناس للتمتع بالطبيعة في أرض محطة الشام في آخر خط الترام عند آخر الجميلية ، حيث يجلس المرء في أرض زراعية مزروعة بالشعير و يرى منها مبنى كلية الهندسة ، ليست هناك أبنية تحجب الرؤية .
انتشر الناس في الحدائق و المنتزهات حتى يستمروا في أفراحهم في يوم ربيعي مشمس ، ١٧ نيسان يمثل عنفوان الربيع و كمال جماله ، و أقبل الناس على شراء العقابية من الباعة المتجولين ، صندويشة الفلافل لا تزيد عن ثلاثة فرنكات ، و كأس العيران بفرنكين ، و بائع السوس يصدح بطاساته ، كل طاستين بفرنك أو طاسة واحدة بفرنك ، و يستطيع المرء أن يملأ جيبه بالبزر بفرنك .
تجري مباريات بكرة القدم بين أندية حلب على كأس عيد الجلاء و في المساء يخرج الرياضيون و الأفواج الكشفية و طلاب الفتوة بمسيرات ليلية حاملين المشاعل ، و في الليل تبتسم قلعة حلب لأهل حلب بأنوارها بمناسبة عيد الجلاء .
تنام مدينة حلب سعيدةً و قد ابتهج أهلها بعيد الحرية ....