حرية الأدب وقيود التاريخ

حرية الأدب وقيود التاريخ

د.أحمد محمد كنعان

عند مطالعتك لمدونات التاريخ كثيراً ما تفاجأ بوجود "فراغات" واسعة في الأحداث ، فتتساءل عن السر في هذه الفراغات ؟ وتزداد دهشتك حين تجد أن هذا السلوك الغريب يشكل ظاهرة عامة بين المؤرخين الذين يبدو أن جميعهم ـ إلا من رحم ربي ـ مولعون بالتهميش والعزل والحذف وإزاحة الأحداث التي لا تروق لهم إلى الظل !

وعند التدقيق في هذه العلة ـ التي لا يكاد ينجو منها مؤرخ من المؤرخين مهما ادعى النزاهة والموضوعية ـ نجد أن تلك "الفراغات" كانت مخصصة لوقائع (التاريخ السري) و (التاريخ المسكوت عنه) و (التاريخ الممنوع) ، وهي كما لا يخفى مناطق محفوفة بالمخاطر ، مزروعة بألغام شديدة الانفجار ، وربما لهذا السبب ينأى المؤرخ بنفسه عنها ، ويتجنب الاقتراب منها ، حرصاً على حياته وقوت يومه !

وقد لاحظت أن تلك "الفراغات" في مدونات التاريخ يمكن أن تملأها أشكال أخرى من وسائل السرد ، وبخاصة منها النصوص الأدبية ، من قصص وروايات وأشعار وسيرة ذاتية ، فالأدب يمثل فضاء واسعاً أكثر حرية من التاريخ ، وهو يتسع لسرد المهمَّش والمنسي والممنوع والمسكوت عنه .

وقد حفلت النصوص الأدبية قديماً وحديثاً بالكثير من النصوص التي تعبر عن تلك العلاقة الشائكة ما بين الأدب بصفته رائياً حراً ، وبين التاريخ بصفته شاهداً كتوماً مولعاً بالعزل والتهميش والحذف والتعتيم !

وهذا يعني أن الأدب يشكل رديفاً غنياً يمكن أن يحدثنا عن التاريخ المسكوت عنه والمهمش والممنوع والمحذوف ، بل إن دراسة العلاقه ما بين النص الأدبي ومضمونه التاريخي وبين المدونات التاريخية يمكن أن يعيد القيمة الحقيقية لكل من الأدب والتاريخ معاً ، وإذا ما نجح الباحث في هذه المهمة ـ التي نعترف بصعوبتها وإشكالياتها ـ فإنه يمكن أن يعيد للتاريخ صفحاته المهمشة والمنسية والمحذوفة والممنوعة ليجعل منه مرجعاً ثرياً نستفيد من دروسه العظيمة ، وإلا بقي التاريخ كتاباً مشوهاً مليئاً بالفراغات ، حافلاً بالطلاسم والرموز التي تشبه خربشات السحرة والمشعوذين !