أية عدالة انتقالية بعد التغيير في سورية ؟
د. عبدالله تركماني
تحديات كثيرة ستواجه سورية في المرحلة الانتقالية من الاستبداد إلى الديمقراطية، ومنها " العدالة الانتقالية "، التي تعترضها - بداية - تحديات تتمثل بكيفية محاسبة رجالات سلطة الأمر الواقع المندثرة، خاصة أولئك الذين لوثوا أياديهم بدماء الشعب السوري وأفسدوا بالمال العام، وكذلك ردُّ الحقوق إلى أصحابها. وأكثر ما يهدد هذه العدالة هو العمى الأيديولوجي لدى البعض والتعصب الفئوي لدى البعض الآخر، اللذان ينذران بنشوء بؤر متفجرة للنزاعات الطائفية أو المذهبية أو القومية، ما يفسح في المجال أمام تصاعد العنف وإسقاط مشروع الانتقال الديمقراطي برمته في أتون الفوضى والصراع الأهلي.
وفي سياق المرحلة الانتقالية ستشغلنا أسئلة كثيرة وحاسمة في سورية، من أهمها: ما نوعية الجرائم والانتهاكات التي يجب المساءلة عليها ؟ ثم ما مستويات المسؤولية ؟ وما نوعية المسؤولية، هل هي جنائية أم مدنية ؟ وما الفترات الزمنية التي تحتاجها عملية المساءلة والمحاسبة ؟
إذ أنّ انتهاكات حقوق الإنسان كثيرة ومتنوعة، وقد امتدت لفترة زمنية طويلة بلغت أكثر من أربعة عقود، إضافة إلى الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها قوات آل الأسد وشبيحتهم طوال ثمانية عشر شهراً منذ بداية الثورة السورية، الأمر الذي قد يجعل مسألة البحث في السبل السليمة للتعامل مع إرث الماضي مطلوباً، بل هو حاجة ماسّة، خصوصاً وقد أصبح مطروحاً على بساط البحث، سواء من قبل الضحايا أو من مكوّنات المجتمع المدني، والأحزاب والقوى السياسية.
إنّ هدف ومنهجية مؤسسات العدالة الانتقالية في سورية المستقبل هو السعي إلى بلوغ العدالة، أثناء مرحلة الانتقال السياسي من الشمولية إلى الديمقراطية، ومعالجة إرث انتهاكات حقوق الإنسان، ومساعدة الشعب السوري على الانتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف. وذلك من خلال توخّي القضاء هدفاً مزدوجاً: المحاسبة على جرائم الماضي، ومنع الجرائم الجديدة من الوقوع، وفق استراتيجية تعتمد إعادة بناء وطن للمستقبل يتسع لجميع مكوّنات الشعب السوري، قوامه احترام حقوق الإنسان والآليات الديمقراطية وسيادة القانون. ومن هنا تأتي أهمية بناء مؤسسات العدالة الانتقالية لمعالجة كل مخلفات الماضي، باعتبارها إحدى الوصفات العلاجية لكيفية التعامل مع مخلفات السلطة المستبدة.
وهكذا فإنّ أهم ما يواجه عملية التحول الديمقراطي في سورية هو ضرورة إجراء حوار وطني شامل حول كيفية التعامل مع الماضي في إطار العدالة الانتقالية، بما يؤدي إلى رفع الوعي القانوني وتعزيز الثقافة الحقوقية بأهمية التعامل - إنسانياً وقانونياً - مع الماضي بطريقة تجنّب المجتمع السوري ردود الفعل بالانتقام أو الثأر أو الكيدية أو تغذّي عوامل الكراهية والحقد والضغينة.
وإذا كان دور مؤسسات المجتمع المدني مهماً فإنّ أهميتها تزداد في الفترة الانتقالية، لما لها من خبرة ودراية غير حكومية، خصوصاً بمتابعة مجريات الأحداث والانتهاكات، كما يمكن الاستفادة من خبرات دولية في هذا المجال، وذلك بغية اختزال الزمن والوصول إلى هدف المساءلة وهو العدالة. ولكي يتم تسهيل مهمات المحاسبة يمكن تشكيل هيئة عليا للحقيقة لكشف الانتهاكات في الماضي وخلال الثورة، بحيث تضم ممثلين عن جميع القطاعات والحقول القضائية والقانونية والإعلامية والأكاديمية والأمنية والعسكرية والصحية والنفسية، إضافة إلى المجتمع المدني، ويكون لهذه الهيئة شخصية اعتبارية ومعنوية وضمان استقلالها المالي والإداري، ويتم ذلك قانوناً بحيث تحال إليها جميع الملفات، ذات العلاقة بالمجازر واجتياح المدن وقصفها بالصواريخ والاغتيالات أو التعذيب أو السجن أو جرائم الفساد أو غيرها.
إنّ المصالحة الوطنية لا تعني النسيان وإنما إلغاء الثأر والانتقام عبر اللجوء إلى القضاء، وذلك يعني أنه لا بد من أن يقبل كل السوريين، من يشعر أنه كان ضحية للنظام ومن يخاف أن يكون أحد ضحايا التغيير، بأنّ سورية المستقبل قادرة على حمايتهم جميعاً وأن تؤمّن لهم مستقبلاً أفضل. وهنا لا بد من التشديد على مبدأ ربح الجميع، بمعنى أنّ المسؤولين الحاليين الذين سيصبحون سابقين، ممن لم تتلوث أياديهم بدماء الشعب السوري وبالفساد العام، يتوجب عليهم إدراك أنّ تفاوضهم بشأن التحول الديمقراطي هو ضمانة لعدم تعرضهم للعنف في المستقبل. كما أنّ على الضحايا السوريين أن يدركوا أنّ مستقبل سورية يتعلق بمدى قدرتهم على تجاوز الماضي من أجل الشراكة في سورية المستقبل، وهذا لن يتم بالطبع إلا عبر المفاوضات المشتركة من أجل وضع خريطة طريق للانتقال الديمقراطي.
وتتنوع أشكال هذه العدالة بحسب الخلفيات التي تحددها والأهداف المتوخاة منها أيضاً، وعادة ما تتركز آلياتها في إحداث لجان لتقصي الحقائق بصدد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وكشفها بتفصيل أمام الرأي العام، أو من خلال المقاربة القضائية ومحاكمة الجناة أمام القضاء المحلي أو الدولي، أو عبر تقديم تعويضات مادية (أموال وخدمات اجتماعية وتربوية ونفسية وصحية..) ومعنوية (تقديم اعتذار رسمي للضحايا وحفظ الذاكرة..) وجبر الضرر للضحايا عما لحق بهم من مآسٍ ومعاناة، أو بإعمال إصلاحات مؤسساتية تسمح بتعزيز دولة المؤسسات، وترسيخ سيادة القانون وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته، وتدبير التنوع المجتمعي بمختلف مظاهره القومية والدينية والثقافية، بصورة ديمقراطية على أساس العدالة والمساواة والحرية، أو بالسعي لتحقيق مصالحة بين مختلف الفرقاء السياسيين، علاوة على إقامة النصب والمتاحف لحفظ الذاكرة، بالإضافة إلى منع المتورطين في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من تولّي مناصب حكومية أو ذات طابع سلطوي داخل مؤسسات الدولة.
ومن المؤكد أنّ الثورة السورية لن تقف عند حدود تغيير بنية الدولة الأمنية، وإنما ستمتد وظيفتها للحديث عن توحيد المجتمع السوري المتنوع في إطار دولة المواطنة الحقة، فكل النشطاء ومن كل المكونات الوطنية والشرائح المجتمعية يلتفون حول هدف واحد هو الحفاظ والارتقاء بمكانة الدولة السورية وتطويره بمحض إرادتهم وبقناعة أنّ مصلحة تفعيل المواطنية إنما هي مصلحة خاصة قبل أن تكون عامة.
(*) – نُشرت في صحيفة " المستقبل " اللبنانية – 22/8/2012.