موهبة القراءة الخاطئة
د. ضرغام الدباغ
[email protected]
كنت أمر ذات مرة بالقرب من وزارة الخارجية السوفيتية في موسكو
(وهي بناية عملاقة) والساعة قد تجاوزت الثانية عشر ليلاً، لاحظت أن نسبة كبيرة من
الغرف مضاءة، مما يعني أن هناك موظفين يعملون في هذه الساعة، فلما أبلغت ملاحظتي
هذه لمن معي وكانوا من الدبلوماسيون المعتمدون في موسكو، أجابوني بأن الوقت الآن
في واشنطن الآن في قلب ساعات العمل، وكذلك في بقاع شتى من العالم، أدركت أي جهاز
دبلوماسي عملاق يعمل في هذا المكان. وإذ كانت موسكو ليست مولعة بنشر
الأحصاءات كالامريكان، ولكننا لا نعتقد أن الأمر يختلف عنه كثيراً في واشنطن عاصمة
الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يقوم بالعمل في وزارة الخارجية كادر عملاق يبلغ
عدد موظفيه 28,053 ألفاً موظفا، منهم: 11467 موظفا في السلك الدبلوماسي و7802 ألفاً
من رعايا دول أجنبية و8784 ألف موظفا في السلك الإداري. وبرغم هذه الأجهزة العملاقة، التي لا
ريب أن شاغلوها من الموظفين على درجة عالية جداً من الكفاءة والتأهيل والتجربة،
وتستخدم أرقى أجهزة العمل والاتصال الكترونية، معززة بقدرات تكنيكية كبيرة، ولكننا
مع ذلك نسمع وبين الحين والآخر من مخولين بالتصريح أن وزارة الخارجية ارتكبت خطأ
هنا أو أخطاء هناك. هو بالطبع ليس بغباء، فهؤلاء رجال ومؤسسات، ولم يبلغ أحدهم
موقعه إلا بعد تراكم خبرة علمية وتجربة عملية(هذا على الأرجح ولكن مع احتمال حدوث
أخطاء) بيد أن المشكلة تكمن بتقديري بالقراءة الخاطئة وإهمال التسلسل الموضوعي
للأحداث أولاً، وطغيان عوامل الهوى على الحسابات العقلية المجردة ثانياً . ولا يعني مطلقاً أن الدول الكبرى التي
تتمتع بوفرة في الكوادر المهيئة والمدربة ذات المواصفات المهنية العالية أن لا تقع
في الخطأ، بل يحدث أن يعترف أكبر المسؤولين في الجسم الدبلوماسي في الولايات
المتحدة الأمريكية وعلى لسان وزير الخارجية، أنهم ارتكبوا ألاف الأخطاء ..! اعتراف
صعب ورد على لسان الوزيرة رايس بصدد النشاط السياسي / الدبلوماسي والعسكري الأمريكي
في العراق وهو اعتراف ليس بالسهل، وقبلها أعترف الرئيس بوش نفسه بأنهم في الإدارة
الأمريكية اخطأوا في الشأن العراقي فيما يخص مسألة جوهرية مثلت ذريعة للعدوان وهي
أسلحة الدمار الشامل. وأعترف وزير الخارجية الأسبق كولن باول أن اللحظة التي أخرج
فيها أمام مجلس الأمن أمبولة صغيرة بحجم الخنصر، مخاطباً أعضاء مجلس الأمن أنها
عينة من أسلحة الدمار الشامل العراقين، الوزير باول وصف هذه اللحظة أنها أسوء ما
فعل طيلة حياته. وهذه الاعترافات هي كافية لإقامة
ملاحقة قضائية / سياسية بحق مرتكبي الأخطاء أفراد وجماعات، وإقامة المسؤولية
السياسية على من تولى إدارة العمليات السياسية والعسكرية. ولكن في العديد من
الحالات، فإن القوى عظمى تخطئ في تقدير موقف معين، بل هي بالاحرى تخطئ تقدير عواقب
مواقفها على بناء مفردات الموقف أو حتى على مصالحها في المدى البعيد أو القريب. أتحدث تحديداً عن الموقف الروسي
بالدرجة الاولى ثم الصيني، اللذان يتصرفان حيال الثورة السورية بقراءة خاطئة والسبب
على الأرجح ليس لأفتقار الدولتين العظميين إلى موظفين سياسيين / دبلوماسيين أكفاء
لينضجوا قرارات سليمة لحكوماتهم، بل إلى قراءة خاطئة للموقف برمته، بل بالأخرى
للثورات العربية ونتائجها على المدى القريب أو البعيد، فهو قرار قيادي لم يتخذ في
القنوات الدبلوماسية، بل في موقع سيادي وصار إلى أبلاغ هذا القرار إلى الجسم
الدبلوماسي بالوقوف إلى جانب خطأ في الوقت الخطأ والمكان الخطأ، وتسعى الوزارات
الخارجية مذعنة للقرار السيادي إلى تفصيل ثوب(وقد يأتي مهلهلاً) لهذا الخيار
الخاطئ. ومن نافلة الكلام القول أن لا علاقة
البته بالآيديولوجيا، أو المواقف الشعبوية، فروسيا والصين غادرتا هذا الموقع منذ
زمن بعيد جداً، بل لم يعد يتذكره جيل الموظفين السياسيين الحالي (الدبلوماسيين)حتى
لمرتبة السفير، فعشرون عاماً (وهي فترة الانفتاح الاقتصادي والسياسي التي دشنها
الروس والصينيون) تكفي لبلوغ الموظف الدبلوماسي المبتدئ في الخدمة لدرجة المستشار،
أو السكرتير الأول في أقل الأحوال وهي مراتب قيادية في العمل الدبلوماسي. فالتحولات الجوهرية التي أنتقل من
نتائجها البلدان(الاتحاد السوفيتي / روسيا ــ الصين) إلى اقتصاد السوق وما أدراك ما
اقتصاد السوق، الذي يعني فيما يعني اعتماد مبدأ الربح كأساس لنجاح أية فعالية أو
نشاط اقتصادية، ودخلوا العولمة من أبوابه العريضة، فدخلت الاحتكارات الإمبريالية
العواصم الاشتراكية وهي تصدر الأرباح بالمليارات، ولكن هذا المبدأ يعني بالضبط
البراغماتية في السياسة، وهو مبدأ مخالف تماماً لمبدأ العمل السياسي للدبلوماسية
الاشتراكية التي ذهبت مع الريح ولم يبقى منها سوى ذكريات دولتين عظميين كانتا
تتعاملان وفق المبادئ الاشتراكية والديمقراطية الشعبية، وتقفان إلى جانب الشعوب، ما
أمكنها ذلك مع حسابات عدم المجازفة حتى في تلكم العهود الاشتراكية الزاهرة.
الآن تخطط الدوائر السياسية /
الدبلوماسية برامج تحركها بناء على مبادئ المصالح الصرفة، بل صرحت أعلى المستويات
السياسية في روسيا، أن ليس هناك مواقف تضامن مجانية كما في عصر الاتحاد السوفيتي،
وكاد المسؤول الروسي الكبير بلهجته الساخرة أن يصفها بالغبية. ربما على المدى القريب فقدت روسيا
والصين أنظمة (ليبيا وستخسر سوريا أو خسرتها فعلاً) ولكنها لم تخسر ليبيا وسوريا
ومصر الشعب والمستقبل، بل أن روسيا والصين تهددان الآن هذه بمواقفها تهدد مستقبل
علاقاتها في الآجال البعيدة دون أن يكون هناك داع حقيقي لهذه المواقف. فالسوفيت /
الروس أنفسهم(وسائر البلدان الاشتراكية في أوربا الشرقية) أذعنوا لشعوبهم في إنهاء
أنظمة كانت قد قدمت الكثير جداً لشعوبها من المنجزات التاريخية، فقوضوا بأيديهم
ذالك البناء ولم يتركوه للمصادفات أو لتدخل أصابع أجنبية، بل هم من حدد ملامح
المستقبل بعد النظام الشيوعي، وربما حسناً فعلوا، فهم أدركوا أن الأمر تجاوزه
التاريخ، ولابد من دولة جديدة ونظام جديد، والأمر الذي يقع في الأولوية المطلقة
التي لا نقاش فيها: هو صيانة الوطن، وسلامته ومستقبله. وعلى هذا النحو تقريباً تصرف
الصينيون، فاعتبروا أن المهمة الأهم هي تقديم منجزات للشعب، وخلق أنسب الظروف
للتقدم، وأطلق دينج شياو بينج قائد الإصلاح الصيني جملته المشهورة " لا يهم إن كان
لون الهر ابيض أو أسود، المهم أن يلتهم الفئران " جملة حولت مسار تحولات اجتماعية
وسياسية والاقتصادية، وتبعه الجهاز الحزبي بأنضباط دون أن يتفوه أحدهم بكلمة عن
يسار ويمين وانحراف وما شاكل ذلك من المصطلحات التي تصدر لنا وتجد من يبرع في
استخدامها. ولكن ليس على هذا النحو يتصرف النظام
السوري، فمصلحة سوريا الوطن، الاستقلال السياسي، المنجزات، أرواح الناس، هي لا تخطر
على بالهم مطلقاً. وهكذا فالروس والصينيين يرتضون لنا ما رفضوه لأنفسهم، فيقبلون
نظاماً في سورية خارج التاريخ والجغرافية والخارطة والزمن، نظام لا هوية له، عائلة
فاسدة تريد مواصلة التسلط على بلاد وتستخدم كل شيئ لمواصلة هذا التسلط، بل ويدافعون
عنه دفاعاً مستميتاً، ولا دخل للمبادئ هنا، ولا للأخلاق فلسنا نتناقش في تكية، بل
سمعنا من لافروف وزير الخارجية الدبلوماسي المحنك كلاماً لم تقله أشد الدوائر
تربصاً بالعرب والمسلمين. هذا بعض مما عندهم، ترى ماذا يكنون لنا في الواقع ...؟
مصالحهم هي أن لا يتحد العالم العربي
والإسلامي، وهم في ذلك أكثر تطرفاً من الغرب، هم لا مصلحة لهم أن تحل القضية
الفلسطينية لصالح العرب والمسلمون، وهم يتفقون مع الغرب جزئياً في ذلك، ما لا
يرتضونه هو أن يكسب الغرب إسرائيل ويحولها إلى قاعدة سياسية وعسكرية واقتصادية له
هذا ما يزعجهم فقط .... فقط ....! وأخيراً وليس آخراً أن لا يخسروا مصالح اقتصادية
هي هزيلة إذا ما قورنت بأنشطتهم الاقتصادية التي يجازفون بها. هو مأزق، أن تجد دول كبرى في موقف
الدفاع عن نظام مجرم، مأزق الخروج منه أصعب من الدخول فيه، لا ترتضي لنفسها أن
تتراجع بعد بحر من الدماء، ليس هناك ذرة نخالة تتذرع بها روسيا والصين، دماء الآلاف
في مسؤوليتهم، يدعمون نظاماً احترقت أوراقها كلها ولم يعد له أي ساتر يتستر به سوى
موقف روسيا والصين، نظام يقتل شعبه بالمدفعية والدبابات والطائرات لمدة سنة ونصف.
سمعنا من مصادر روسية مطلعة، أن أوساط
القرار السياسي الروسي تعرضت للغش، واستلمت معلومات بولغ بها، وتصورت أن النظام
صامد صمود الجبال ثم ثبت أنها نظرية غير دقيقة، وأي نظام هذا يسفك دماء شعبه ليل
نهار بوحشية غير خائف من قانون ولا من المحاسبة، والفضل في ذلك للروس والصينيين وفق
نظرية: من أمن العقاب أساء الأدب ماذا بعد عن موقف الروس والصينيين
....... لا ذريعة لكم، لقد ألجمتم أفواه محبيكم وأصدقائكم وقريباً جداً سوف لن
تجدون من يتحدث عنكم بكلمة خير.