قراءة في ما بعد سقوط النظام
د. هشام رزوق
من خلال التطورات التي تشهدها الثورة السورية على الأرض يتبين لكل ذي عقل أن الأمور ستنتهي بإسقاط النظام وانتصار الثورة، حيث أن النظام يخوض معركته على طول الأرض السورية وعرضها فهو يقصف المدن والبلدات والقرى السورية كلها دون تمييز بين المدنيين وبين من حمل السلاح للدفاع عنهم، لا يفرق بين رجل أو امرأة، بين طفل أو شيخ بين إنسان أو حيوان، وإن من البديهيات القول أن من يخوض حربا شاملة ضد شعبه كاملا لا يمكن أن ينتصر، قد يكون قادرا على التخريب والحرق والتدمير، ولكن نهايته الهزيمة بلا شك.
إذا كان انتصار الثورة حتميا، فإن مهام كبيرة وشاقة تنتظر رجال الثورة منذ الساعات الأولى لسقوط النظام، بل ومنذ الأسابيع القليلة التي تسبق وتنبئ بهذا السقوط.
حين تظهر علامات النصر يزداد عدد المنشقين عن النظام والذين يرمون بأنفسهم من سفينته الغارقة، كما يزداد عدد المدعين بأنهم جنود الثورة الأبطال، وتكثر المناورات السياسية داخليا وخارجيا لنيل حصة ما من النفوذ ومن الصفقات ومن التأثير على مجرى الأحداث للمراحل القادمة، هذا بالإضافة للتدافع السياسي من شخصيات وأسماء ووجوه ممن كانوا يحسبون من المعارضة لتسلم منصب سياسي أو وظيفة عليا أو وزارة أو سفارة، وهنا يطرح تساؤل مشروع وهو: من له الشرعية الحقيقية باستلام زمام الأمور بعد سقوط النظام؟
المنطق يقول بأن من ساهم بإسقاط النظام هو الذي يمتلك الشرعية لاستلام الحكم. في حالة الثورة السورية التي بدأت بانتفاضة شعبية وبمظاهرات سلمية وبحراك مدني بعيدا عن العنف وعن العسكر، كان من المؤمل أن يأخذ ذلك الحراك مداه السلمي وتزداد رقعة المظاهرات والاحتجاجات وصولا إلى الإضراب والعصيان المدني، حتى إسقاط النظام واستلام الشعب بهيئاته المدنية والسياسبة التي تنضجها حركة الاحتجاج تلك زمام الأمور، لكن اختيار النظام للحل الأمني ومواجهة المظاهرات بالقتل المباشر واتساع دائرته لتشمل كل المدن السورية، ثم ارتكاب المذابح والمجازر وانتهاج سياسة الأرض المحروقة في المدن والقرى والمزارع، كل ذلك ولد ظاهرة الجيش الحر الذي كان مضطرا لحمل السلاح والدفاع عن الأهالي المدنيين وبدأ هذا الجيش يحل تدريجيا محل المظاهرات السلمية.
الآن أصبح الجيش الحر هو القوة الضاربة التي ستسقط النظام، وحين نقول الجيش الحر فالمعروف أن الأساس فيه هم الضباط وضباط الصف والجنود الذين انشقوا عن الجيش النظامي مبكرا وتبعهم آخرون في مراحل لاحقة وحتى الآن، ‘إضافة إلى أعداد كبيرة من شباب الحراك الثوري الذين انضموا لصفوف الثورة بعد أن تخلوا عن المظاهرات السلمية.
هذا يعني بكل بساطة أن الجيش الحر هو من سيستلم السلطة لحظة سقوط النظام وهو من ستكون له الكلمة العليا، وبشكل خاص الضباط المقاتلون على الأرض المشاركون بشكل فعلي وعملي في كل المهام القتالية.
وهنا لا بد من التذكير بأن من دعم الجيش الحر بالمال والسلاح وبوسائل الاتصال وبالمعونات اللوجستية والإغاثية سيطلبون موقعا يكون لهم فيه قدرا من التأثير والنفوذ واتخاذ القرارات.
إذا كان هذا شيئا مفهوما ومقبولا بشكل عام فإن من غير المقبول أن يتساوى جميع الضباط المنشقين بالقيمة والمسؤولية، فليس من انشق منذ الأيام الأولى للثورة أو الشهر الأول وعانى هو وعائلته الأمرين وساهم بتشكيل الجيش الحر وخاض المعارك على الأرض كمن انشق أو ينشق في الساعات الأخيرة ولم يظهر إلا في الفنادق الفخمة والصالونات ولم يتحمل أية مهمة عسكرية على الأرض، ويناور فقط لاغتصاب حق غير مؤهل له.
هل يعني هذا أننا سنعود إلى حكم العسكر من جديد؟
قد لا يكون هناك من مفر من أن يقود الجيش الحر مرحلة انتقالية لفترة قد تطول أو تقصر حسب نضوج ظروف المعارضة والأحزاب والهيئات السياسية المتواجدة على الساحة السورية أو في الخارج، وبقدر ما تثبت تلك المعارضة قدرة على توحيد كلمتها وتتعامل بشكل ديمقراطي بين بعضها البعض وتتفق على برنامج عمل طموح لتجاوز مآسي الواقع الحالي يأخذ بعين الاعتبار ضرورة تشكيل حكومة مؤقتة ولجنة تأسيسية وصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية نزيهة ، بقدر ما تكون الفترة الانتقالية التي يهيمن بها العسكر قصيرة، بخلاف ذلك فهناك مخاطر كبيرة أن تنزلق البلاد إلى حكم عسكري آخر.
كما لا يجب الاستهانة بمشاريع ومخططات القوى الإقليمية، العربية منها أو التركية أو الإيرانية أو إسرائيل والغرب عامة، ومحاولة كل منها أن تؤثر بمجرى الأحداث تبعا لمصالحها وأن تدفع بعملائها والقوى التي تتعامل معها لركوب موجة الحكم بعد سقوط النظام، مما يلقي مسؤوليات إضافية كبرى على قوى الثورة والمعارضة في حماية المصالح الاستراتيجية لسوريا وأن تقود سياسة مستقلة تنسجم وطموح جماهيرها وطموح أبناء الشعب كافة، وخاصة استرجاع الجولان المحتل بكافة الوسائل الممكنة وعدم التفريط بذرة من ترابه، مع تمسكها بحق الدفاع عن استرجاع الأرض العربية المحتلة في كل مكان وبالدرجة الأولى منها الضفة الغربية والقدس.
إن هناك مهمة بناء الدولة المدنية الديمقراطية بمؤسساتها المختلفة، ومهمة بناء ما دمرته الحرب ومهمة إعادة النازحين والمهجرين واللاجئين وإعادة تأهيلهم وإدماجهم في دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإعادة تنظيم هياكل الجيش والقيادات الأمنية وإعادة النظر بكل القوانين التي كانت تساعد في نهب قوت الشعب وإفقاره والدوس على حقوقه ونزع صفة المواطنة عنه ليكون تابعا ذليلا لأزلام النظام، دون أن ننسى التعليم والصحة والخدمات العامة وغيرها كثير..
إننا إذن أمام مهمات صعبة وكبيرة تستدعي من كل القوى السياسية ومن قوى الجيش العمل سويا بكثير من التفاني والإخلاص ونكران الذات، وإن أي صراع على السلطة لتقاسم "المغانم" أو المحاصصات الطائفية أو الفئوية ستدخل البلاد في نفق مظلم قد لا تخرج منه أبدا.
إن الثورة وانتصارها هي الفرصة التاريخية التي قد لا تتكرر أبدا لبناء سورية جديدة، سورية الدولة المدنية الديمقراطية التي لا إقصاء فيها لأحد مهما كان، سورية التي ترسم مستقبلها بأيدي جميع أبنائها، سورية التي تعطي الأمل بمستقبل زاهر واعد قائم على احترام كرامة المواطن وإنسانيته، على توفير العمل للجميع، دولة قائمة على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع وليس من خلال البنادق وفوهات المدافع، فهل نكون على مستوى تلك المهمة التاريخية أم تضيع الفرصة وإلى الأبد؟