عرانيس الذرة وأكوازها
د. سماح هدايا
في كل حي من بلادنا، في موسم الذرة، بائع لأكواز الذرة. مسلوقة عرانيسها أو مشويّة. والناس يعتادون رؤيته ويعتادون الشراء منه. ثمّ يتعقّد الوضع ويمارس البائع احتكارا للحي، ويعتقد أن له وحده هذا المكان وأنه الأحق به والأجدر والخبير. وربما لو جاء بائع جديد، ما وجد له مكانا وما سمح له البائع بالبيع والتحرّك، وسيتجاهل وجوده أهل الحي؛ فهناك تواطؤ ضمني بين البائع القديم الذي اعتادوا عليه وبينهم، وربما حدثت معارك ضارية بين القديم والجديد .
هذا أمر ينطبق على النشاط البشري في أكثر حالاته، خصوصا في حالة الضعف والركون والتقاعس. يعتاد البشر على بشر، ويتقاسمون معا بشكل عفوي مسارات حياة، تصل إلى مرحلة التقوقع، وعقليّة الشلّة. فلهذا الحي بائع أكواز الذرة، لا ينازعه أحد، مع أنه بائع متجوّل، لا ملكيّة قانونية له في المكان، كذلك بائع التمرية والكعك والكستناء والكرز الأخضر واللوز الأخضر. وكذلك بائع الوطنيّة والشعارات وأكواز المستقبل التي يريد تفصيلها على د فهمه ومصالحه في بعض أزقّة المعارضة السوريّة.
ومن هذا المنطق الشارعي منطق مصلحة بائع أكواز الذرة، يشق أفراد ومجموعات من المعارضة، ومن فصائل القتال المسلح أو النضال السلمي طريقهم في هامش خارطة الثورة السوريّة. ليس العيب في الثورة السورية العظيمة ولا في ثوارها. وإنما العيب متمثل في تمدّد ثقافة المصالح، واحتكار المواقع والقرارات للسيطرة على الواجهة السياسيّة، وفي بعض ما تفرّعه الثورة بالضرورة في أطرافها من فوضى قبل أن تنجز مهمتها الخلاقة العظيمة.
ليس كل من حمل السلاح هو ثائر لمبدأ، وليس كل من عارض هو وطني العقيدة وخالص الوفاء. وليس كل من انشقّ سياسيا أو عسكريا أو أمنيا هو رجل موقف وقضية. هناك صفقات مصالح واحتكارات، ترعاها قوى كبرى لتحقيق بديل عن النظام الذي تفسّخت سمعته وهيبته وقوّته وشرعيّته، وبديل عن الثورة التي يمثل نجاحها في إسقاط النظام مؤشراً شديد الخطر في المستقبل على أمن إسرائيل ومصالح الدول الاستعمارية في المنطقة .
شاب ثائر مناضل في واحد من المؤتمرات الكثيرة التي أوجدتها الثورة السوريّة. كان قد غادر الوطن، مؤقّتاً، لسبب وطني وجيه، ليكون في الحراك الثوري للمعارضة بعد ان كان يناضل في أحياء حمص المكافحة ضد الإرهاب. في عينيه عمق حزين ممزوج بأمل صامد. اسمه الرمزي تأبّط خيرا. شرح لي بوجهة نظر رصينة هادئة منطق بائع أكواز الذرة المتجوّل الذي يتمتع بعلاقة متواطئة مع الحي وأهله المشغولين بأمورهم في ملكية شرعية واحتكار لبيع الأكواز، ليتحوّل بمرور الزمن إلى تاجر يشرعن مصالحه في البيع والاحتكار.
لكنّ الخطير في الأمر أن تنتقل هذه الحالة التملكيّة من حالة فردية اعتباطيّة إلى حالة عامة منظّمة، وأن يصبح لها مأسسة قصرية يفرضها منطق شبيه بالتشبيح والبلطجة والاستحواذ؛ ففي اجتماع كبير مؤخر للمعارضة السوريّة تجلّى بوضوح منظر التشبيح الذي يستخدمه بعض رجال المعارضة، ليس فقط الذين يعملون على احتكار تمثيل الشعب السوري وثورته سياسيا وعقائديّا. أو الذين يسعون إلى بسط نفوذهم بالصوت المرتفع، بل أيضا الذين يحاولون بالمال والتمويل السيطرة على حراك المعارضة والثورة، وقيادة الأمر بحسب مصالحهم، ووفق مبادرات يفرضونها من دون ان يشارك الشعب الثائر فيها أو يكون تشاور عام حولها، فهم يستخدمون رجالا شبيحة لا يختلفون عن شبيحة نظام بشار. لهم عضلات مفتولة وأجساد ضخمة، يحومون كالكلاب حول أسيادهم ويفسحون لهم في الأماكن، ويقومون بحراستهم وحمايتهم، كأنهم قوى لسلطة جديدة تحقق بمنطق المال والقوة شرعية السيطرة. وربّما نظام استبداد جديد.
هؤلاء ركبوا ريح الثورة والمعارضة، لمصالحهم الفئويّة، ويريدون احتكار الشارع الثوري الذي تسلقوه وقيادة الثورة. لم تصقلهم قط الوطنية بمياهها الصافية ليكونوا رجال الوطن وأصحاب المبادىء الوطنية. يغيرون مواقعهم وولاءهم وفق مصالحهم. فخلل شديد في الشرايين التي تصل بين قلوبهم والمبادىء الوطنية ؛ يتسكّعون في المقاهي التي تشعل أضواءها قوية لتسرق الضوء من الثورة.
ثورتنا ليست صرخة وليد عليل. يصرخ ليموت. ولن تصبح حطاما، ولن تنجح أحلام المتاجرين بالدم الثوري في التحليق حول الحطام. الشعب عندما يقاوم كالقصب لا تكسره الرياح، يصبح نايات تعزف أنشودة الصراع من أجل البقاء. إن الشعب قد يخسر حينا وقد يخفق حينا، لكنه سيربح المعركة والحرب التحررية لأنّه يخوض حربه الوجوديّة.