الكيان الصهيوني وإدعاءات النصر
د.مصطفى يوسف اللداوي
هي ليست محاولة لتبرئة الكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية من جرائم القتل والاغتيال العديدة التي ارتكبها ويرتكبها كل يوم بحق المناضلين والمقاومين الفلسطينيين والعرب، داخل فلسطين أو خارجها، بل هي محاوله لتجريده من أوهام القوة والبطولة، ومن إدعاءات النصر والهيمنة، إذ من الخيانة تبرئته، ومن الجهالة نفي التهمة عنه، ومن السذاجة استبعاده من دائرة الاتهام، إذ لا متهم سواه، ولا مستفيد غيره، فتاريخه سجلٌ أسود، وماضيه قذرٌ وملوث، وأدواته رخيصة ودنيئة، ووسائله خبيثةٌ وخسيسة.
فقد نفذ الكيان الصهيوني مئات عمليات الإعدام بحق المقاومين في الميدان وفي السجون والمعتقلات، وخلال المواجهات وأثناء الاعتقال، فجرائمه في حقنا أكثر من أن تحصى، وأكبر من أن تنسى، وهي جرائمٌ قديمة وجديدة، استخدم فيها طرقاً شتى ووسائل عديدة، فقتل بإطلاق النار على المطلوبين مباشرة، واغتال قصفاً وتفجيراً، وصعقاً وتسميماً، واستخدم المواد الكيميائية والعناصر النووية المشعة، واختطف وصفى، وغيب وقتل، واعتمد القتل السريع الناجز، ولكنه لجأ إلى القتل البطيئ الذي لا يترك أثراً دامغاً يدل عليه، ويشير إليه.
وافتعل مئات الأسباب للوصول إلى أهدافه وتصفيتهم، واستخدم التقنية الحديثة والوسائل والأساليب الأولية البسيطة، وسخر لتنفيذ أهدافه الطائرات والصواريخ والعبوات المموهة والقذائف الموجهة، وقتل أحياناً بنفسه، كما كلف آخرين من عملائه والمتعاونين معه بتنفيذ جرائمه بالنيابة عنه، وقد سعى في كثيرٍ منها إلى إبعاد التهمة عن نفسه، وتبرئة أجهزته الأمنية من ارتكابها، خوفاً من أعمال الرد والثأر والانتقام، أو تجنباً للحرج الدولي والملاحقات القضائية الدولية، خاصةً إذا ارتكب جرائمه في دولٍ غربية أو عربية يرتبط معها باتفاقيات سلام، أو في حال استخدامه لجوازات سفر دولٍ أجنبية، لتسهيل مهمته، وتجاوز العقبات التي تعترض فرقه الأمنية في الدخول إلى بعض الدول العربية التي لا يستطيعون الدخول إليها بجواز السفر الإسرائيلي.
واستهدف بالقتل كل الفئات من الجنسين، ومن مختلف الأعمار، ومن كل الجنسيات العربية، وطال بجرائمه القذرة المقاومين والمقاتلين خلال رباطهم وأثناء تجوالهم، والعلماء من مختلف التخصصات، والقادة السياسيين والزعماء البارزين، ورجال الدين وطلاب الجامعات المتفوقين، ولم يستثن أحداً من شروره وأحقاده، صغيراً أو كبيراً، جريحاً أو سليماً، محرراً أو أسيراً، مغترباً أو مقيماً، ولم تمنعه من القتل قداسة مسجد ولا حرمة مدرسة، ولا صحبة والدٍ لأطفاله، ولا وجود لكثيرٍ من الأبرياء حول أو في محيط الهدف.
إنه الكيان الصهيوني عدونا، الذي يحتل أرضنا ويغتصب حقوقنا، فلا نستبعد عنه القيام بأي جريمة، مهما كانت قذرة وجبانة، إذ ماذا ننتظر منه وهو العدو الخبيث غير القتل غدراً، أو الاغتيال غيلةً، أو التصفية المدروسة، فلا نتوقع منه رحمةً ومغفرة أو رأفةً وشفقة، ولا ننتظر منه أن يمسح على وجوه أطفالنا أو يربت على ظهور صغارنا، بل إنه يسعى لصفع وجوه أطفالنا وكسر ظهور صغارنا، بقتل الآباء المعيلين والأشقاء المربين، ولكنه إن غيب بالقتل بعضنا، فإننا لا نصعر له خدنا، ولا نلين له عزمنا، ولا نهين من أجله كرامتنا، ولا نتراجع أمامه، ولا نجبن عن مواجهته، ولا نخفض أصواتنا في حضرته، أو نخفي وجوهنا عند ملاقاته.
ولعل الكيان الصهيوني يفرح إذا نجح في اغتيالِ قائدٍ أو زعيم، وتظهر المسرة في كلماته، وعلى وجوه قادته وأبناء شعبه، وتصدر عنهم إشارات الفرح وعلامات السعادة والشماتة، إذ يهمهم أن ينالوا منا، وأن يقتلوا خيرة مقاومينا، وأن يزيحوا من أمامهم من أرعبهم وزرع لهم الموت في الطرقات وفي الحافلات والباصات، ولعلهم يسعون إلى رفع روحهم المعنوية، وإشعار شعبهم أن أيديهم طويلة، وذراعهم الأمني قادرة على الوصول إلى أبعد الأهداف وأكثرها حيطةً وأمناً وتعقيداً، بما ينفي عن مواطنيهم الإحساس بالخوف والعيش بقلق، وترقب الموت، والامتناع عن السفر وإلغاء برامج السياحة والاصطياف، خوفاً من الاختطاف والاصطياد، فتراهم يعلنون في بعض الأحيان صراحةً مسؤوليتهم عن تنفيذ بعض عمليات الاغتيال، فقد أعلنوا صراحةً بلسان رؤساء حكوماتهم ووزراء دفاعهم عن نجاحهم في قتل عماد عقل ويحيى عياش وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وأبو علي مصطفى وغيرهم من كبار القادة والمقاومين، لاعتقادهم أن ذلك يرفع روح شعبهم المعنوية، ويعيد إليهم ثقتهم في جيشهم المنهار، وفي أجهزتهم الأمنية التي اهتزت صورتها في أكثر من مكان.
ولكن الكيان الصهيوني يحاول في بعض الأحيان الإدعاء بأنه هو الذي نفذ عملية القتل، وأنه المسؤول عن عملية الاغتيال، رغم أن الحادث قد يكون أحياناً قضاءً وقدراً، وقد تكون الوفاة لأسبابٍ طبيعية، ولا دخل للكيان الصهيوني وأجهزته الأمنية بها، ولكنه يريد أن يظهر أمام شعبه بأنه يقظٌ وحذر، وأنه قادرٌ ويستطيع الوصول إلى أبعد الأهداف وأخطرها، وأنه يستطيع الانتقام لشعبه، والثأر لمواطنيه، كما أنه يستطيع أن يقضي على مكامن الخطر التي تهدد كيانه، في الوقت الذي يسعى فيه من خلال هذه الإدعاءات الكاذبة إلى تدمير الروح المعنوية لدى المقاومين، وإحباطهم نفسياً، وإشعارهم أنه سيصل إليهم مهما طال الزمن، وأن أحداً لن يفلت من عقابه.
يدرك الكيان الصهيوني أنه يمارس لعبةً نفسية مع العرب والفلسطينيين، وأنه يحاول أن يلقي الرعب والوهن في قلوب الفلسطينيين، من خلال إدعاءاته وأباطيله، بأن يده طويلة، وذراعه الأمنية قادرة على الوصول إلى كل مكان، وتنفيذ ما يريدون، ولكن هيهات له أن يحقق مراده، وأن يصل إلى غاياته، فنحن نعلم أن يده قاصرة عن الوصول إلى كل أهدافهم، وأنهم أضعف من أن يحققوا على المقاومة انتصاراً ناجزاً، أو أن ينزلوا بها هزيمة ماحقة، فالمقاومة ورجالها الذين استطاعوا أن يحافظوا على بنيتهم وهياكلهم لسنواتٍ طويلة، يدركون أن معركتهم مع الكيان الصهيوني معركة طويلة، وأنها لم تحسم بعد، وأنه على الطريق سيسقط شهداء في المواجهة، وآخرون قتلاً واغتيالاً، وسيقضي آخرون نحبهم دون سببٍ لوفاتهم إلا انتهاء آجالهم، ولكنهم سيكونون شهداء كغيرهم، لا ينقص الموت من قدر شهادتهم شيئاً، وأثناء ذلك فإن المقاومة ستكون للعدو بالمرصاد، تتعقبه وتلاحقه وتواجهه، ولن يضيرها شيئاً أن تعترف بسقوط بعض رجالها غيلةً وغدراً على أيدي المخابرات الإسرائيلية، ولكنها لن تمنحهم نصراً مزعوماً، وكسباً موهوماً، ولن تتردد عن كشف الحقائق، وتسليط الضوء على الملابسات، وتكذيب أبواقه الإعلامية والأمنية إذا حاولت تبني حالة وفاة أو غرق أو موتٍ نتيجة لحادثٍ مروري، لئلا يغتر العدو بنفسه، ويوهم شعبه أنه من نفذ وقتل، وأنه من عذب وعاقب.