اللغة فلسفة الحضور الإنساني
فراس حج محمد /فلسطين
لم تكن اللغة يوما حروفا جامدة مخطوطة على الأوراق أو متشكلة كلاما على الشفاه بلا معنى، بل هي من لحم ودم تحمل نبض قائلها وروحه لتطير يماما أبيض يناغي العقل والروح؛ وتكتسب اللغة لذلك دلالة خاصة، وحازت مكانة مميزة في الوعي البشري على مدى العصور، إنها الجمال الآسر النابع في الشعر والنثر وتصوير الأحاسيس والأفكار.
قالوا: في البدء كانت الكلمة، "كن"، حرفان بسيطان، يفتحان أفق الوجود على الوجود ويحاربان العدم، "كن فيكون"، ليست جملة بلاغية مختصرة سليمة التركيب قواعديا وحسب، بل هي الوجود ذاته، تمحو ظلمة الاغتراب عن نفس علاها الإحباط وشلها اليأس، "كن فيكون" مفتاح الفعل البشري والإلهي والكوني على ما لا حد له من التجلي في حضارة الإنسان، التي انطلقت من حرفين أبجديين لهما سحر الحياة وينفخان الروح في الأشياء لتعلن أنها الزمان والمكان، لتصنع أسباب الإرادة الفاعلة!!
لعل كثيرين لا يدركون أهمية القول وخطره، فتراهم يثرثرون، ويلقون الكلام على عواهنه، فيحتطبون بليل حالك، فيحصدون الوهم والوهن ويلتقطون الجثث الميتة المتعفنة التي تكدر الصفو وتسوّد الصحف بما يشينها فتغيم فيها الرؤيا الواضحة، فربما كلمة قلتها- أيها الإنسان- قلبت الموازين وغيرت مجرى التاريخ، وبدلت المواقف، وربما كلمة- على النقيض من ذلك- قالت لصاحبها دعني، وربما كانت الكلمة من ثمين المعادن، لتجعل الصمت بليدا أهوج لن يكون من ذهب أو فضة، بل سيخجل من كينونته الميتة لأنه يفتقر للفعل الحضاري الساحر.
فالعبارة تعبير والصمت موت أسود، والكلام شمس النفس وضياؤها، وورود مشاعرها، وحديقة متلألئة متناغمة مع حفيف الشجر المحاول كلاما، فيقوله على طريقته الخاصة بتموجات الأغصان ورقصها على أنغام ريح الصبا، فقد هبت لتصافح وتحتكّ، فتحفز الحجر على القول وتمنعه من الصمت والسكون، فالطبيعة ليست صامتة بل لها حروفها ولغتها وأصواتها، وفلسفتها الخاصة في صياغة المعاني، فسبحان من أعطى اللسان لكل مخلوق، ومنح الإحساس في كل دفقة شريان، إنه الله العظيم الحكيم، الذي كتب التسبيح على كل شيء، فما من شيء إلا يسبح بحمده، بكرة وأصيلا.
فلا يستقلنّ أحدكم بخطر الكلام وسحره، ألم يكن هو الجسر الممتد بين قلوب البشر، والرابط بينهم على مر الأزمان، ألم يكن هو بداية التغيير وبداية التنوير وبداية البداية، ولأجل ذلك كنت تستحق- أيها الإنسان- أن تكون إنسانا مكرما من الخالق، فليكن اللسان عنوانك للمحبة والأخوة وتدشين العلاقات الإيجابية، وتذكّرْ أنه "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد"، وحاذر أن تكون الكلمة شاهدا عليك بما يشينك، واجعلْ ما يخرج من فيك عاطرا يضمخ فضاء السامعين، ويشنف آذانهم بما يُمْتِعُ ويقنع، ويغذي الروح، ولنحترم جميعا أمانة الله فينا، إنها الكلمة التي تبقى لتدل عليك حاضرا وغائبا.