كيف يمكن فهم قصة السيدة مريم كحالة فكرية عامة؟
معالم الشخصية الإنسانية في القرآن الكريم (2)
كيف يمكن فهم قصة السيدة مريم
كحالة فكرية عامة؟
فراس حج محمد /فلسطين
تحيل قصة السيدة مريم العذراء إلى أفق خاص من المعرفة المتمثلة في أنها حالة إنسانية خاصة، اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون أمّا لنبي الله عيسى عليه السلام، ولتكون آية من آيات الله؛ ولذلك فإن جزءا من حياتها هو معجزة لا يصح أن يندرج ضمن التمثل الفكري في حياة الناس.
ولكن هل كل جوانب حياتها عليها السلام كانت معجزة؟ لا شك بأن لها جانبا بشريا إنسانيا هو محل للتجريد الفكري ليحيل إلى أفق معرفي قابل للتجسيد والتمثل في حياة الناس في كل زمان ومكان، وإلا لفقدت الواقعة والنموذج ألقهما، وهذا ما لم يكن في قصص القرآن الكريم، ولذلك لن أناقش هنا مسألة حملها وولادتها لسيدنا المسيح عليه السلام، لمعرفتي أنه هذا الأمر آية من آيات الله، وهو معجزة، ولذلك فهو خاص.
أما بقية الجوانب فلها سند من التعميم الفكري عبر محطات حياة السيدة مريم البتول عليها السلام، كما عرضها لنا القرآن الكريم، وأول هذه المحطات ما جاء من أن السيدة مريم قد انقطعت للعبادة في بيت المقدس نتيجة نذر نذرته أمها، في أنها ستهب ما في بطنها لله سبحانه وتعالى، فتفاجـأ الأم بأن المولود أنثى وليس ذكرا، فتقول "وليس الذكر كالأنثى"، وليس معنى هذا مطلقا أنها كانت تفضل الذكر على الأنثى، ولكنها في حدود ما تعلم أن الأنثى لن تكون مثل الذكر في انقطاعها وتبتلها في العبادة في المقدس.
وهنا يجب أن أشير إلى أن البيت التي عاشت فيه السيدة العذراء هو بيت صلاح وتقوى، بحيث يكون هاجس الأسرة قائما على كيف ترضي الله سبحانه وتعالى، ولا أغلى من الولد ليكون هبة لله سبحانه، وهذا أول معلم فكري يجب أن ننتبه إليه، وهو تأسيس الأسرة على الإيمان والتقوى، لتكون كلها في رعاية الله، وقد حدثت هذه الرعاية الحقيقية أن تكفل الله بمريم عند حملها وولادتها فكان لها وحده من الناصرين، في أصعب المواقف وأحرجها، وهذا درس يجب أن يفهمه كل الناس في كل زمان ومكان، وهو مصداق للقول المعروف الشائع "تعرف على الله في الرخاء يتعرف عليك في الشدة".
وتظهر رعاية الله لها كذلك أثناء تبتلها وانقطاعها في بيت المقدس عندما كان يدخل عليها زكريا فيجد عندها ما لذ وطاب، فيقول لها "أنى لك هذا، قالت هو من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب"، فعلى الرغم من أن سياق الآية فيه إخبار بأن هذا الرزق منزل من الله، ولكن ليس شرطا أن يكون هذا مانعا لغيرها من أن يرزقه الله رزقا حسنا، فقد سخر الله الناس للناس، يرزقهم الله بحالات ظاهرة بأسباب مقنعة بينة وظاهرة، ولكنها كلها بتقدير الله سبحانه وتعالى، وهنا لفتة قرآنية عظيمة، وتتمثل في أن من كانت حياته لله فإن الله سيكفيه الهم في حياته، وما أعظم من أن يسدّ الإنسان جوعه، وأن يكون في مأمن من براثن الجوع والعطش والتشرد، فإنها والله من خير النعم، وقد تحققت للسيدة مريم العذراء، فقد كانت تسكن في آمن بيت وهو بيت المقدس، وكانت تحت رعاية النبي زكريا، وكان رزقها يأتيها بكرة وعشيا، فليس بعد هذه النعم من نعم.
ولننتقل الآن إلى وقت المحنة والشدة، وهو وقت الولادة، وسأقفز عن كل المشاهد المؤثرة لأصل إلى لحظة المخاض العسير، فقد خاطبها الله بقوله: "وهزي إليك بجذع النخلة، تساقط عليك رطبا جنيا، فكلي واشربي وقري عينا"، إن هذا الحديث بحاجة إلى تأمل وتأمل كبير جدا، فالمرأة في مخاض، وهي تكون أضعف ما تكون مستلقية على ظهرها، لا حول لها ولا قوة، استسلمت لخروج روح أخرى من روحها، ويأتي كلام رب العالمين طالبا منها أن تهز جذع النخلة، في الوقت الذي لا يستطيعه أعتى الرجال بعضلاتهم المفتولة، كيف لنا أن نستوعب ذلك؟
إنه توجيه رباني في أن الإنسان حتى في أحلك ظروفه، وهو في أشد حالات ضعفه ويأسه المطلق من انعدام وسائل العمل والفعل المجدي المفضي لأي نتيجة، عليه أن يقوم بما يستطيعه، أو يحاول ذلك ما استطاع، وعليه ألا يستسلم للخور والضعف، فإن الله لم يخلقه ليقضي عليه اليأس ويستسلم، بل عليه أن يفعل، فأي فعل من العبد مهما كان هو عند الله عظيم، فلنحاول ولا نستيئس، وليكن بعد ذلك ما يكون، فإن الله لن يخذل عبده، ولكن إن استكان وضعف خاب وخسر، ولن يكون الله معه، هذا هو درس إنساني آخر من دروس قصة السيدة العذراء جدير بالتأمل.
وأخيرا، فلنجمل خلاصة الشخصية الإنسانية المتمثلة في قصة السيدة العذراء عليها السلام:
- إن تربية الإنسان في أسرة قائمة دعائمها على التقوى والعمل الصالح هو أهم ركيزة في حياة الناس، ولذلك لا بد ممن يسعى إلى تكوين أسرة أن يأخذ هذا في الحسبان، لأنه أساس ليكون الأفراد صالحين مشمولين بالرعاية والعناية الربانية.
- أن تكون مع الله يعني ذلك أن لا تفكر بغيره، وأن يكون محور حياتك هو الله سبحانه وتعالى، وسيكفيك شر الناس وكيدهم وحديثهم وأباطيلهم كما حدث مع السيدة العذراء وقد اتهمت اتهامات باطلة، فردها الله عنها أحسن رد وأفحمه.
- أن يقوم الإنسان بما يجب القيام به، وأن يتحمل المسؤولية كاملة عن أفعاله، ولا يركن إلى الاستسلام والضعف في أوقات الشدة، بل عليه أن يناضل بما توفر له من وسائل وإمكانيات، فلا يضعف، ويركن إلى الموت، أو يستسلم إلى أن الله سيفعل كذا وكذا، صحيح أن الله سيفعل ما تريده، ولكن عليك الأخذ بالأسباب، وأن تبادر بالعمل، فلا تحقرن أي عمل في تلك الظروف، حتى ولو كان في نظرك حقيرا تافها، فهو منك وأنت خائر القوى ينزل عند الله المنزلة الكبرى، ويكون سببا في الخلاص وتغيير الظروف لصالحك.