ماذا تبقى في جعبة الحاوي
د. ضرغام الدباغ
كنت قد تنبأت في مقالة سابقة قبل عدة شهور، أن الموقف في سوريا يزداد وضوحاً وأن هامش المناورة يتقلص تدريجياً، فبعد كانت لشهور طويلة ورائنا، صارت أمامنا، وأخيراً وهكذا بصراحة يحسد النظام عليها، أعلنها حرباً حقيقية، وشكل حكومة حرب وأعلنها حرباً سافرة لا تبقي ولا تذر، وبآخر ذرة من حسن النية نقول أن النظام أنزلق إلى هذا الموقف تدريجياً، ومرة أخرى نقول أن القرارات لا تتخذ كلها في دمشق، بل الأخطر منها يأتي بصيغة نصيحة / أمر، فالنظام مغلوب على أمره واليوم غادرت الابتسامة الوجوه، ولم تعد التهديدات تجدي فتيلاً، سنشعلها حرباً ضروس، حريق سيلتهم المنطقة، صراع دولي خطير يصل الحرب العالمية الثالثة. كلها ذهبت مع الريح مع الاعتذار لفضاضة التشبيه لمرغريت ميتشل كاتبة الرواية هذه.
ما يميز المسرح السوري في أحدث ظواهره، هو تزايد الوضوح في المواقف والأبعاد التي لم يعد بالامكان تغطيتها، فغدت المرامي والألوان مفهومة أكثر حتى للمتابع العادي وليس المتخصص. فعلى المسرح السوري تدور صفحات جديدة للثورة، ببطء ولكنها تفرز نتائج متوقعة تتطابق مع تحليلنا وتوقعاتنا إلى درجة كبيرة. وأن الأمر خرج بنسبة غير بسيطة من يد حكام دمشق، وأن الشأن السوري يتجه لأن يكون ملفاً دولياً خاضعاً لبورصة السياسة الدولية صعوداً وهبوطاً وليس إلا القليل من نقاط المساجلة الاستراتيجية هي بيد النظام، حين يحلو له أن يعاند التاريخ والتطور ويخالف أبسط أحكام اتخاذ القرارات السياسية، فهناك قرارات كبيرة اتخذت بناء على أحكام الهوى والغضب، والشعور بعقدة الضعف وإعطاء انطباعات خاطئة، كان لها نتائجها الوبيلة.
وبوضوح لا لبس فيه، أن للملالي الإيرانيين أيادي طويلة في مرافق سورية حكومية كثيرة، وهو شأن لم تفعله أية حكومة عربية من قبل، أن تتحالف استراتيجياً مع نظام معاد للأمة العربية، بل هذا ما لم تفعله حتى حكومة كحكومة نوري السعيد أثناء إبرامها لمعاهدة حلف بغداد حيث نصت أنه غير موجه لأي دولة عربية، فماذا تبقى للنظام السوري من هوية سياسية / وطنية / قومية يطرحها كغطاء محتمل لشرعية هي ناقصة بمقتضى القانون أصلاً ؟
اليوم فقد النظام الخط السياسي الذي على أساسه قام الحكم على يد الاسد الوالد، عندما كان النظام يلتزم خطاً قومياً، ويلتزم خط القرارات العربية، وإن زاغ عنها قليلاً أو كثيراً، كان يفعل ذلك بدهاء شديد ولا يبدو ابتعاده بما ينفي الخط العروبي عنه، أما اليوم فالنظام نسف كل المقومات النظرية والعملية، وقذف بنفسه في لعبة التوازنات بما أفقده السيطرة على مجرى الاحداث وتطورها، وليس سراً أن الروس يتفاوضون عوضاً عن النظام، بل ويمتلكون القدرة على القول أنهم لا يدعمون أسماً أو شخصاً بالذات، وهم قادرون على وضع الاسد في إحدى جزر البحر الاسود لا يرى فيها سوى الماء والسماء، هكذا يقولون، ونظام الملالي الإيراني يرى أنه قادر على التفاوض قي الشأن السوري بل ويطالب بذلك، والأدهى هناك من يعتبر (تعتقد روسيا ذلك) أن هذه المطالبة محقة ومشروعة، بأي حق وبأي صلاحية ؟
وبعد مراجعة شاملة لمستويات الواقع السياسي، فإن النظام اليوم هو ابعد ما يكون عن نظام سياسي له رؤية سياسية شاملة للموقف، تحتم عليه أن يضع حلول ليس من ضمنها تشغيل مكثف لألوية الجيش النظامي المدرعة والميكانيكية واستعداء دموي للشعب ولكل من يعارضه لدرجة اعلان حرب صريحة على لسان رئيس النظام وتلك هفوة كبيرة، فهذه سياسة سوف تقصيه نهائياً عن أي مكانة أو دور في الاجتماع السياسي السوري اليوم وفي المستقبل، ليس بسبب سياسة الاستبعاد، التي يتبعها النظام، فليس هناك نظام سياسي في العالم يعلنها صريحة : إما أنا أو الحرب والموت الزؤام، ذلك ببساطة لأن العمل السياسي يفترض أن يكون الحوار هو مادة العمل السياسي وليس القوات المسلحة، وعناصر مصابة بسعار القتل.
النظام يضيف كل يوم أسباب جديدة على ضرورة إزاحته عن السلطة، لدرجة بلوغه مرحلة الحتمية التاريخية، فهو لم يعد يمثل شيئاً له مشروعيته السياسية والقانونية والدستورية والاخلاقية. والأمر بأسره لا يعدو اليوم أن يكون ضرباً من ممارسة قرصانية للسلطة قائمة على مبدأ اختطاف الحزب والسلطة، ولم يعد الجيش وطنياً بحكم أنه يواجه الشعب كعدو منذ خمسة عشر شهراً، وهو اليوم عالة ثقيلة وغمامة سوداء حتى على مستوى العشيرة التي زجها النظام في معركة حياة أو موت بدون داع حقيقي، إذ لا تمثل هذه المعركة الدموية الطاحنة سوى رغبه عائلية ذاتية في الهيمنة والتسلط.
ولكن الغريق يتشبث بقشة، وكنا قد سمعنا كلاماً كثيراً عن خلايا نائمة تهب عند ساعة الصفر لتحرق الأخضر واليابس، وإن كنا قد سمعنها من هذه التهويلات عبر الدعاية الإيرانية، والحديث كله يدور بالمليونية وليس أقل من ذلك، وسمعنا عن تهديداتهم بغلق البحار والمحيطات، ومن يعيش يسمع ويرى.
وندرك أيضاً أن من هذه الخلايا النائمة، رهط من الكتاب والمطرودين من حركاتهم السياسية ومرتزقة القلم، ومن يحلو له أن يمنح رأسه وفكره بالإيجار، وهؤلاء أمرهم مشهور في الصحافة العربية، وإن كنا نفاجأ بين الحين والآخر بقلم طالما نفخ في الأبواق وتسلق المناصب، وتزلف للقيادات، وفعل في ذلك ما لم يفعله أي انتهازي عريق، ولكن يبدو أن أجهزة المخابرات السورية والإيرانية، قد اشتغلت وعملت على كسب عناصر تعمل وتكتب بالقطعة، وهم اليوم اكتشفوا أمراً فريداً فات عليهم خلال عقود طويلة من الزمن.
في سوريا يسخر الناس بأن هناك أشخاص، وربما أحزاب وحركات تعطي الإشارة لليسار، ولكن السيارة تنعطف يميناً، ومن يبحث عن شيئ في السوق يجده حتماً، والفجل هو أحمر قاني من الخارج، ولكنه أبيض كالثلج من الداخل، وهكذا حال حركات وأفراد.
اليوم يروجون للتيار القومي وهذا لوحدة ليست مشكلة بالطبع، ولكن من يتصدى لهذه المهمة تفوح رائحة العملات الصعبة منهم ومن كتاباتهم، ويدافعون عن القائد القومي الفذ القذافي، وسوريا التي تتعرض إلى عدوان امبريالي ...؟ وبعد سنة من القتل وتدمير المدن وحرب ضد الشعب أعلنها رئيس النظام صراحة، لا يوجد لليوم قرار دولي ضد هذا النظام الذي شعبه العربي والمسلم كما لم يفعل أي مستعمر في أمتنا العربية لا الإنكليز ولا الفرنسيين ولا حتى الصهاينة.
قبلها بأسابيع، روجت أقلام للنظام ويا للعجب، (حقاً كما أعلن رئيس النظام، أنها حرب وكل شيئ حلال)، فإذا بالأقلام المأجورة تكتب أن الدين أفيون الشعوب، وأن التيار الديني السياسي هو كارثة، وانظروا كيف تتعرض قلعة اليسار والثورية لعدوان إمبريالي. حقاً هذه هي خلايا المخابرات النائمة اليوم لم يعد أي شيئ عار، وطالما ولغوا في دماء الشعب وتحولوا من ممانعين وثوريين احتياط إلى آلة تحصد الشعب دون تميز وتغتصب بنات شعبهم.. حقاً لم يبق شيئ أسمه العيب أو العار.
ليس بوسعي الجزم كم تبقى للنظام السوري من مساحة أو هامش للمناورة، ولا شك أنه فقد الكثير منها، فهذا نظام بطريركي قائم على تكريس ولاءات شخصية محضة داخلياً، وأخرى غير معلنة تدخل في إطار علاقات عشائرية ومناطقية متخلفة، وأخرى دولية مبهمة غامضة، بل هو يبتعد كل يوم عن احتمال أي تسوية ممكنة للموقف، باستثناء الاذعان لمبادرة المبعوث الدولي كوفي عنان، وعدا ذلك فليس أمام النظام سوى المجهول وبألوان قاتمة.
ربما هناك خيار أخير قد تبقى، أن يقبل النظام الحقيقة التاريخية، وليس هو أول نظام صرفته الجماهير ولن يكون الأخير، القبول بالحقيقة المادية هي ربما آخر خيار يحفظ لسورية الشعب الوطن، النسيج الاجتماعي الوطني الذي تآخى عبر مئات من السنين، ولابد أن يبقى كذلك، وهو هدف ينبغي أن لا يتخلف عنه أحد بما في ذلك النظام الذي فقد فرص بقاؤه كنظام حكم ديمقراطي للشعب السوري بأسره.