زوج وزوجة و.....أدب

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

تمهيد:

منذ أن خلق الله آدم عليه السلام خلق له زوجه. بدأ الكون برجل وامرأة, وكونا أسرة. لا تدلنا الروايات على أن العلاقة بين آدم وحواء كانت متوترة أو سيئة, بل إن الروايات تتحدث عما يدل على ألفة ومودة بينهما, وتحمّل مشترك للمسؤولية رغم ما قيل عن (توريط) حواء لآدم بالأكل من الشجرة المحرمة, ومع ذلك لم تنقل لنا الروايات أن آدم لام زوجه أو حملها مسؤولية ما حصل وحدها, كما يفعل أبناؤه اليوم, بل إن القرآن أخبرنا أن آدم عليه السلام قال: "ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين". فهو لم يتنصل من المسؤولية, ولم يلقها على حواء وحدها, وعندما طلب المغفرة من الله على ما فعلاه قال, كما نقل الطبري في تفسيره: "اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أستغفرك وأتوب إليك، تب علي إنك أنت التواب الرحيم". فطلب التوبة لنفسه, اعترافاً منه بالاشتراك مع حواء بما حصل من معصية وخطيئة. وقد قال بعضهم إن الله تعالى أخبرنا بأن آدم من عصى وليست حواء: "وعصى آدم ربه فغوى", وهذا ما أشار إليه صالح الشرنوبي الشاعر المصري حين قال:

وعصى آدم وما قال حوا.........ء فسبحان قوله وتعالى

لقد أراد الله للكون أن يسير وفق نظام مخطط, وأراد أن تكون الأسرة هي نواة هذه الحياة. ومهما اختلفت المجتمعات وتغيرت الأزمان تبقى الأسرة هي الأساس لأي مجتمع قائم. ورغم تباين وجهات النظر حول الزواج وأهميته وأهدافه, مازال الناس يتزوجون, ومازال التوق لبناء أسرة فطرة فطر الله الناس عليها.

وبما أن الأدب, والشعر خصوصاً, مرآة تنطق بثقافة المجتمع, (قبل أن يغرق الشعراء في تمحورهم حول ذاتهم, واتحافنا بخبايا نفوسهم وأجسادهم المعذبة, وكأنهم يعيشون في كوكب منفصل, فلا يشعرون بما يدور حولهم إلا في مناسبات خاصة), فإنني سأنقل لكم في هذا المقال بعض وجهات نظر الشعراء الرجال خصوصاً, حول الأسرة والزواج, وعلاقة الزوج بزوجته عبر الزمان, ذلك أن الرجل متهم أكثر من المرأة بخيانة العشرة, وبظلم المرأة وعدم الإحسان إليها, ففي يده أمر الزواج والطلاق, وهو رب الأسرة والمسؤول عنها.

الزواج بين الأمس واليوم:

يقول الشاعر صالح السويسي القيرواني (1887 ـ 1941م)

حسنُ الزَواجُ بِهِ كَمَالُ الارتقا......      وَبِهِ رِباطُ العائلات توثَّقا

لَولاهُ ما عمَرَ الوجود وَلَم يَكُن .....      نَسلٌ لَهُ علم كَغَيثٍ أَغدَقا

قَد عَمَّرَ اللَه الوُجودَ لحكمةٍ .....      فيها تَآلفنا فَلَن نَتَفَرَّقا

لم نسمع شاعراً قديماً انتقد الزواج أو هجاه أو امتدحه أيضاً, ذلك أن النظرة إلى الزواج كانت مختلفة, فهو فطرة, وهو سنة مستحبة, وهو سكن, وهناك قدرة على تكراره, والقيام به مرة بعد مرة, دون تبعات أسرية أو استنكار من المجتمع, إلا إذا تعدى حدوده, حتى صار مبالغة غير مقبولة.

لقد كان أسلافنا مزواجين مطلاقين, رجالاً ونساءً, فكما أن الرجل يتزوج ويطلق ثم يتزوج من جديد, فكذلك المرأة تتزوج وتُطلق وتتزوج مرة بعد مرة. ولم تكن كلمة (عانس) التي نستخدمها الآن للمرأة التي فاتها قطار الزواج مستخدمة بنفس المعنى, فكما جاء في الصحاح فقد كان يُقال للمرأة عانس "وذلك إذا طال مكثها في منزل أهلها بعد إدراكها حتَّى خرجت من عداد الأبكار. هذا ما لم تتزوَّج، فإن تزوَّجت مرَّةً فلا يقال عَنَسَتْ.....ويقال للرجل أيضاً: عانِسٌ.....وقال الأصمعيّ: لا يقال عَنَّسَتْ، ولكن عُنِّسَتْ على ما لم يسمّ فاعله. وعَنَّسَها أهلها", أي أن أهلها هم من حبسوها عن الزواج, حتى عُنّست. وهذا لا ينفي وجود حالات خاصة طبعاً, لكنها لم تكن متضخمة كما هي الآن, حيث نجد ملايين العزّاب والعوانس من الجنسين, راغبين في الزواج ولا يقدرون عليه.

لم يكن الطلاق, وهو أبغض الحلال عند الله, كارثة كبرى كما هو الآن, يشرد الأسر, وتعاني آلامه النساء والأولاد, ذلك أن المرأة كانت تتزوج من جديد غالباً, بينما الأولاد يعيشون ضمن أسرة كبيرة لا تقتصر على الأب والأم, فقد كانت أسرة عريضة ممتدة, متمثلة بالقبيلة والعصبية, يعيش فيها الولد ولا يكون اعتماده على أمه وأبيه فقط, بل هو فرد من جماعة كبيرة, يعيش ضمنها وينشأ معتمداً على نفسه, وعلى وجود أهل يحمونه ويرعونه. ولم يكن الطلاق مسبباً لتلك الآثار النفسية الخطيرة التي يفعلها اليوم في الأبناء, فالطلاق كما قال عنه جميل صدقي الزهاوي (1863 - 1936م):

ومنا الطلاق استقبحوه لأنه......       يحل الرباط العائلي ويجذم

نعم قبحه إن لم يكن لاقتحامه.......       بواعث تقضى بالفراق مسلم

وأما إذا ما كان ثم تنافر.......       فإيقاعه بالطبع أولى وأسلم

لكن مع اختلاف الظروف والمجتمعات صار الطلاق كارثة تلحق بالأسرة, يعاني آلامها الأبناء من تشريد وإهمال وفقدان للحنان والرعاية والدفء الأسري, فقد تغير مفهوم الأسرة, وصارت أسرة صغيرة, تظهر أثار انهيارها بصورة واضحة عند غياب أحد الأبوين. ومع ذلك تراه منتشراً بصورة جعلته كالبلاء, وما ذلك إلا لسوء الفهم لشراكة الزواج, التي يتبعها سوء في الاختيار, وقسوة وجفاء في العشرة والمعاملة بين الزوجين. اسمعوا باحثة البادية (ملك حفني ناصيف  1886 ـ 1918م) تقول:

إن الزواج على خطورة شأنه.........       آلت روابطه لشرِ ممزق

اليوم عرس باهظٌ نفقاته..........       وغدا تقام قضية لمطلق

أتعاقدون على الحياة شريكة.........       غيباً أيمقت عاقل من ينتقي

إن هجاء الزواج ومديحه جاء في عصور متأخرة, عندما غدا الزواج عبئاً له تبعاته, جراء ارتفاع التكاليف المعيشية وغياب أشكال التكافل الاجتماعي تدريجياً من المجتمع. وعندما تغيرت النظرة للزواج عموماً, وتغيرت معه أشكال المسؤولية التي يجب أن يلتزم بها المتزوج, وكذلك تبعات الطلاق وآثاره السيئة.

وبتنا نرى من يهجو الزواج, ومن يصف لنا تجربته المريرة معه, كفؤاد بليبل الشاعر اللبناني (1911 ـ 1941م) الذي قال:

حَدّثونا عَنِ الزَواجِ حَديثاً ........      حَسَنَ السَبكِ شائِقَ الأَقوالِ

فَأُخِذنا بِبارِقٍ مِن سَناهُ .......      وَسُحِرنا بِمَنطِقٍ خَتّالِ

فَوَقَعنا فيما خَشينا وَكُنّا........       عَن مَراميهِ في غِنىً وَاِعتِزالِ

فَاِضطُرِرنا إِلى الخُضوعِ وَبُؤنا .........      مِنهُ بِالهَمِّ وَالأَسى وَالنكالِ

أما الشاعر اللبناني أبو الفضل الوليد(إلياس بن عبد الله) (1886 ـ 1941م) فقد أقنع نفسه بأن الزواج شر لا بد منه حين قال:

وفي الزواجِ أمورٌ لو فَطِنتَ لها.........       ما قلت سعداً لأولادٍ وأزواج

لكنَّ في الكونِ أسراراً تُسيِّرُنا........       وقد خُلِقنا لتأويبٍ وإدلاج

ويصور لنا أحمد فارس الشدياق (1804 ـ 1887م) نظرة الرجل للدنيا أيام الخطبة وبعد الزواج تصويراً طريفاً قائلاً:

في طلعة الدنيا بها.......       ء يوم تخطب يبهج

لكنها عقب الزوا........       ج من التناشز تسمج

لم تكن تكاليف الزواج قديماً عائقاً أمام الرجل أو المرأة, لقد كان الرجل يتزوج مهما كان فقيراً, ولم يكن توافر المال شرطاً لازماً للزواج, رغم تفضيل الغنى عموماً, فالقرآن حضّ على تزويج الفقراء من المسلمين, يقول تعالى: "وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم". وقد زوج الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن, وزوج آخر بخاتم من حديد, وقال فيما رواه البخاري: "من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".

لقد بدأ الناس بمدح الزواج وهجائه عندما صار الزواج وتكاليفه عبئاً ثقيلاً, لا يقدر عليه الجميع, وعندما صار الزواج في بعض الحالات صفقة تجارية, تسمح بحصول ارتباط ما كان ليجري لولا وجود المال والطمع به, ولولا استعداد الزوج لدفعه طمعاً بالبكر الحسناء, يقول الجزار السرقسطي (ت 1209م):

أَغليتُها مَهراً وَلَم أَك باخِلاً .........      وَغلاءُ مهر البكر غَيرُ غَلاء

مَن يَخطب الحَسناء يُغلِ مَهرَها .........      إِن الحِسان فَواركُ البُخَلاء

أما أحمد شوقي الذي انتقد قبول بعض الأهل تزويج بناتهن الأبكار الصغيرات بالشيب الأغنياء من الرجال فيقول غاضباً:

المالُ حَلَّلَ كُلَّ غَيرِ مُحَلَّلِ........       حَتّى زَواجَ الشيبِ بِالأَبكارِ

وَتَعَلَّلَت بِالشَرعِ قُلتُ كَذِبتِهِ........       ما كانَ شَرعُ اللَهِ بِالجَزّارِ

ما زُوِّجَت تِلكَ الفَتاةُ وَإِنَّما.........       بيعَ الصِبا وَالحُسنُ بِالدينارِ

بَعضُ الزَواجِ مُذَمَّمٌ ما بِالزِنا..........       وَالرِقِّ إِن قيسا بِهِ مِن عارِ

بينما نسمع الشاعر العماني المعولي ينصح المقبل على الزواج أن يتعقل وينظر في وضعه المادي, ويقدم له وصفاً للحال فيقول:

وإذا كنتَ ذا جَمالٍ ومالٍ......      وشبابٍ ونجْدَةٍ وعَلاءِ

وسَخاءٍ وعزَّةٍ ورَخاءٍ......       وثَرَاءٍ فاخطُبْ من الأغنياءِ

وإذا كنتَ يا بُنَيَّ فقيراً .....      غيرَ مُثْرٍ فاخطُبْ من النُّظَرَاءِ

وإذا كنتَ ذا مَشيبٍ وفَقْرٍ ......      فعَجُوزاً وَلَّى بغير مِراءِ

وإذا كنتَ ذا مَشيبٍ غِنيّاً ......      فَطَمَاعِيَّةُ النسا في الثّرَاءِ

يبدو أن الزواج وتوفر المال باتا أمرين متلازمين, بل إن وجود المال وكثرته صارت أولولية يُكتفى بها, دون النظر إلى غيرها!, وفي كثير من الحالات يترافق هذا الزواج أو الصفقة مع إهمال رأي البنت, وهل يؤخذ رأي سلعة فيمن يشتريها؟!

يقول الزهاوي واصفاً حال واحدة من هؤلاء:

لَيلى بكت ما قد شجاها .....      حتى تقرح مقلتاها

إذ زوجوها من فتى.....       ما إن رأته وَلا رآها

زفت إليه فلم تجد.....       شيئاً جميلاً في فتاها

فكأَنَّما هي سلعة .....      لقضاء حاجته اشتراها

أما تعدد الزوجات, فبعد أن كان عرفاً اجتماعياً مقبولاً قديماً, له مبرراته وحاجاته, فقد بات شراً وظلماً يرتكبه بعض الرجال بحق نسائهم دون حاجة. ودون حساب لعواقبه وتبعاته التي تنعكس على الأسرة وبنائها, فللتعدد شروط ومقاصد وأسباب, يخبرنا بها محمد توفيق علي مصري (1887 ـ 1937م) قائلاً:

جِنسُهُنَّ اللَطيفُ يَزدادُ عَدّاً......       ذَلِكُم ما يَقولُهُ الإِحصاءُ

فَتَرى اليَومَ الاجتِماعَ مَريضاً .....      وَاِعتِناقُ التَعديدِ لَهوَ الدَواءُ

فَإِذا لَم يُعَدِّدوا مِثلَنا الزَو ....      جاتِ عَمَّ الأَذى وَخيفَ الفَناءُ

لَيسَ في غَيرَةِ النِساءِ مِنَ الـ....       مَحذورِ ما تَستَثيرُهُ البَأساءُ

فَتَراهُنَّ مِن ثُلاثٍ وَمَثنى.....       وَرُباعٍ شِعارُهُنَّ الرِضاءُ

فَمِنَ العَدلِ بَينَهُنَّ وَفاقٌ......       وَالمُساوَاةُ أُلفَةٌ وَإِخاءُ

وَهوَ فَرضٌ عَلى المُعَدِّدِ لا يَقـ....       ـوى عَلى بَعضِ ثُقلِهِ الضُعَفاءُ

صورة وردية لا تتحقق في زماننا للأسف إلا نادراً!, فلا الزوجة ترضى بالضرة, ولا الزوج يقدر على ضبط الأمور والعدل بين زوجاته إلا من رحم ربي.

أما جميل صدقي الزهاوي فيقول عن التعدد:

وأما التعدي في الزواج لأربع......       فمما أساءوا الظن فيه وأوهموا

نعم جوز القرآن ذاك لأهله ......      بشرط إذا راعوه فهو محرم

ألا وهو العدل الذي قد نفاه في......       تعدده واللَه بالناس أعلم

فوسع فيه المسلمون سياسة ......      ليكثر طبق الحاجة النسل منهم

واليوم يحصل التعدد دون مراعاة لشرطه غالباً, وفي معظم الحالات يكون حصوله دون سبب مقنع, ودون نظر إلى المفاضلة بين تحقيق مقاصده مقارنة بتحقيق مقصد المحافظة على الأسرة وتماسكها واستقرارها.

ولأحمد شوقي قصيدة يتناول فيها هذا الأمر قائلاً:

ظَلَمَ الرِجالُ نِساءَهُم وَتَعَسَّفوا ........      هَل لِلنِساءِ بِمِصرَ مِن أَنصارِ

كَثُرَت عَلى دارِ السَعادَةِ زُمرَةٌ .........      مِن مِصرَ أَهلُ مَزارِعٍ وَيَسارِ

يَتَزَوَّجونَ عَلى نِساءٍ تَحتَهُم .........      لا صاحِباتِ بُغىً وَلا بِشَرارِ

شاطَرنَهُم نِعَمَ الصِبا وَسَقَينَهُم .........      دَهراً بِكَأسٍ لِلسُرورِ عُقارُ

الوالِداتُ بَنيهُمُ وَبَناتِهِم .........      الحائِطاتُ العِرضَ كَالأَسوارِ

الصابِراتُ لِضَرَّةٍ وَمَضَرَّةٍ ..........      المُحيِياتُ اللَيلَ بِالأَذكارِ

مودة ورحمة أم شقاق وبغض؟:

من طرائف الشعر ما يحكي عن هجاء الرجل لزوجته, (وكذلك الزوجة لزوجها), ولكن يبدو أن الرجال تفوقوا على النساء في الهجاء لأسباب كثيرة, ليس بينها ما يشاع من أن خُلق المرأة أكثر سوءاً من خلق الرجل بعد الزواج, ولكن يمكن القول إن من أسباب ذلك قدرة الرجل على التعبير العلني عن ضيقه, ففي يده أمر الطلاق, بينما تخشى المرأة من ردة فعل زوجها ونظرة المجتمع لها إن هي هجت زوجها.

ونستطيع أن نقرأ شعراً كثيراً يذم فيه الزوج زوجته, مما يدل على سوء العشرة بينهما. فهذا العماني الراجز (محمد بن ذؤيب بن محجن ت 808م) يصف زوجته قائلاً:

مِن مَنزلي قَد أخرجَتنِي زَوجَتِي ......  تَهِرُّ في وَجهِي هَريرَ الكَلبَةِ

زُوِّجتُها فَقيرَةٌ مِن حِرفَتِي......    قُلتُ لَها لَمّا أَرَاقَت جَرَّتِي

أُمِّ هِلالٍ أبشِري بالحَسرَةِ ......     وَأَبشِري مِنك بِقُربِ الضَّرَّةِ

وإن كان الراجز وصف زوجته بما قرأنا فإن ابن روبيل (الحسن بن يحيى) كان مغرماً بهجاء زوجته (كما جاء في الوافي بالوفيات)، لأنها أشارت عليه أن يمدح كبيراً فما نفع، فهجاه، فقال: "لولا زوجتي لما صفعت، ولولا تغريرها بي لما وقعت". ومما هجاها به قوله:

لي قطة أنظف من زوجتي.......         ودبرها أنظف من فيها

وكل ما صوره ربنا.........         من الخنا ركبه فيها

وصدق الله العظيم الذي قال: "والخبيثات للخبيثين"!

قيل  لأعرابي: كيف حُبّك لزَوْجتك؟ قال: ربما كنتُ معها على الفِراش، فمدَّتْ يدها إلى صدري، فَوَدَدْتُ والله أن آجُرَّة خَرت من السَّقف فقدَّت يدها وضِلْعين من أضْلاع صَدْري، ثم أنشأ يقول:

      لقد كنتُ مُحْتاجاً إلى موت زَوْجتي .........       ولكنْ قرينُ السُّوء باقٍ معَمِّرُ

       فيا ليتها صارت إلى القَبْر عاجلاً.........        وعَذَّبها فيه نَكِيرٌ وَمُنْكَر

وحتى لا نغرق في بحر هجاء الزوجات الذي يبدو أنه أكثر امتداداً من تقديرنا, لا بد لنا أن نذكر أن من الشعراء من أُغرم بزوجه وأحبها, وتغزل بها, ومدحها مدحاً جميلاً, كما فعل الفرزدق (658 ـ 728م) الذي أحب زوجته نوار, وندم على طلاقها, وراح يمدحها قائلاً:

وَمَنسوبَةُ الأَجدادِ غَيرُ لَئيمَةٍ .....      شَفَت لي فُؤادي وَاِشتَفى بي غَليلُها

تُذَكِّرُني أَرواحَها نَفحَةَ الصَبا ......      وَريحُ الخُزامى طَلُّها وَبَليلُها

فَإِنَّ اِمرَأً يَسعى يُخَبِّبُ زَوجَتي ......      كَساعٍ إِلى أُسدِ الشَرى يَستَبيلُها

واسمع للهمشري (ت 1938م) مخاطباً زوجته:

أَنتِ يا زَوجَتي العَزيزَةِ ظِلٌّ ......      مُستَحَبٌّ في رَبوَةِ الأَحلامِ

غَمرَ الروحِ في سَكينَتِها السِحرُ ......      فَتاهَت في عالَمِ الآلامِ

وما أجمل أن يتغزل الزوج بزوجته, ويجد عندها السكينة والرحمة, ويشتاق لها عند البعاد, يقول الشاعر اللبناني سليم جُدي (1869 - 1895م):

لم أنس تسعة أعوام وفيت بها ........      حق المودة إذ بانت أخلاي

فها هنا زوجتي باتت بلا جزع ........      ونام تحت ظلال الأمن طفلاي

وكنت أسلو همومي كلما نظرت........       عيني إليهم فأين الآن سلواي

أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد كان يفتخر بزواجه من فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم, وكانت محبته لها ظاهرة جلية يقول:

جَدّي وَجَدُّ رَسولُ اللَهِ مُتَّحِدٌ ..........      وَفاطِمُ زَوجَتي لا قَولَ ذي فَنَدِ

ولا ننسى تلك القصائد في رثاء الزوجة الحبيبة, التي ماتت تاركة زوجها أسيراً لذكرياتهما معاً, صحيح أن وفاء الزوج لا يعني عدم ارتباطه بزوجة أخرى بعد وفاة زوجته الحبيبة (كما تفعل كثير من الزوجات المحبات بعد وفاة أزواجهن اليوم, إما إخلاصاً خالصاً, أو تحت تهديد الأعراف الاجتماعية التي تلوم الزوجة الأرملة إن تزوجت بعد وفاة زوجها وتنعتها بصفات عدم الوفاء ونكران العشرة), لكن رثاء الزوج يحمل معان جميلة ودلالة صادقة لحب صاف نقي, صقلته العشرة والمودة. ومن أجمل ما يمكننا تذكره في هذا المقام قصيدة جرير (648 - 728م) في رثاء زوجته أم حرزة:

لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ .........        ولزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ

ولهتِ نفسيَ إذْ علتني كبرةٌ ...........        وذوو التمائمِ منْ بنيكِ صغارُ

كانتْ مكرمةَ العشيرِ ولمْ يكنْ ...........        يخشى غوائلَ أمِّ حزرةَ جارُ

ولقدْ أراكِ كسيتِ أجملَ منظرٍ ............        ومعَ الجمالِ سكينةٌ ووقارُ

والريحُ طيبةٌ إذا استقبلتها ..........        والعرضُ لا دنسٌ ولا خوارُ

وإذا سريتُ رأيتُ ناركِ نورتْ ...........        وجهاً أغرَّ تزينهُ الإسفارُ

ومن ينسى رثاء نزار قباني لزوجته بلقيس؟ لقد رثاها بقصيدة هي أروع ما قال برأيي, اسمع لهذا الأسى المتفجر عبر الحروف:

بلقيسُ...

مُشْتَاقُونَ .. مُشْتَاقُونَ .. مُشْتَاقُونَ...

والبيتُ الصغيرُ...

يُسائِلُ عن أميرته المعطَّرةِ الذُيُولْ

نُصْغِي إلى الأخبار .. والأخبارُ غامضةٌ

ولا تروي فُضُولْ...

بلقيسُ...

مذبوحونَ حتى العَظْم...

والأولادُ لا يدرونَ ما يجري...

ولا أدري أنا .. ماذا أقُولْ؟

هل تقرعينَ البابَ بعد دقائقٍ؟

هل تخلعينَ المعطفَ الشَّتَوِيّ؟

هل تأتينَ باسمةً...

وناضرةً...

ومُشْرِقَةً كأزهارِ الحُقُولْ؟...

بلقيسُ...

كيف أخذتِ أيَّامي .. وأحلامي...

وألغيتِ الحدائقَ والفُصُولْ...

يا زوجتي...

وحبيبتي .. وقصيدتي .. وضياءَ عيني...

قد كنتِ عصفوري الجميلَ..

فكيف هربتِ يا بلقيسُ منّي ؟..

خداع وخيانة ومواربة:

يعترف الرجل بخيانة زوجته, ويكون هذا الاعتراف أحياناً مقدمة للتوبة وطلب الغفران, وأحياناً يكون بقصد الإغاظة والتشفي!.

فمن النوع الأول نقرأ لأحمد الكاشف (1878 ـ 1948م) قوله:

وخنت زوجي الذي.........       فيه المنى والرجاء

وبنت عمي التي..........       صانت حقوق الولاء

معينتي في الصبا.........       حتى سئمت الرخاء

منيلتي من حُلىً .........      وزينة ما أشاء

وكم لها نعمة ..........      تثني عليها السماء

فنعم إحسانها ...........      وبئس هذا الجزاء

ومثله خليل مطران ( 1871 ـ 1949م) الذي يحدثنا في قصيدة له عن خيانة وندامة قائلاً:

خَفرْتُ ذِمَامَ زَوْجي وَهْيَ أَوفَى........       مُحَصَّنَة بهَا تُزهَى الخُدُورُ

جُنِنتُ بِحبِّ فَاجِرَةٍ فهَذا ..........      مِنَ الآثَارِ مَأْثرَك الفجورُ

أَبَحْت لَهَا دَمِي وَجَفوْتُ أَهْلِي ..........      فكان الصَّدُّ مِنْهَا وَالنُّفُورُ

وَجَدْتُ بَحْرَ مَالِي لمْ يَرُعنِي..........       قَلِيلٌ ضَاعَ مِنْهُ وَلاَ كثِيرُ

فَلَمَّا اسْتنْزَفَتْ وَفْرِي أَرَتْنِي ............      خَبِيئَةَ نَفْسِهَا تِلْكَ الكُفُورُ

أما إلياس فياض الشاعر اللبناني (1875 ـ 1930م) فيبدو أنه من النوع الثاني, الذي يعترف بحبه لغير زوجته بغرض التفشي وإلحاق الأذى والإهانة, رغم إيراده لأسباب يراها كافية لعدم تحمله ذنب خيانة زوجه, فهو يقول بوضوح:

نعم ليس لي الا الخداعُ وسيلةً .........      لإدراك ما يرجو فؤادي من الحبِّ

رباطُ زواجي لا يفلُّ عزيمتي .........      وإغضاب زوجي لا يبالي به قلبي

أجيرلد لا ترجو وفائي فإنما .........      تزوجت بي غصباً ولا حب بالغصبِ

وحاولتُ من بعدِ الزواج تحبباً .........      إليك فلم أظفر بذا المطلب الصعب

وأيقنتُ أنا ما خُلِقنا لأُلفةٍ  .......     فإن عشقت نفسي سواكَ فما ذنبي

وبعد:

أسأل نفسي قبل أن أطلب من القارئ العزيز سؤال نفسه, هل نجد تلك المودة والرحمة بين الأزواج عموماً؟ أم أننا نرى نفوراً وعيشاً بالإكراه في كثير من الأسر؟

كثيرة هي البيوت التي يعيش فيها الزوج وزوجته حياة جافة, خالية من التواصل الحقيقي المطلوب, حيث يغلب النكد والخصام والتنافر على التشارك والوفاق والمودة, وهناك دراسات تُظهر مدى الرغبة بالانفصال من أحد الطرفين إذا ما سنحت الظروف. وما انتشار الطلاق وكثرته وسهولته على كثير من الرجال والنساء, إلا دلالة على ضحالة جذور الراوبط الأسرية في مجتمعاتنا.

ولكني لا أظن أن أحد يخالفني الرأي بأن قوام الحياة هو في ارتباط رجل وامرأة, ارتباطاً يقدس الحياة المشتركة, ويعرف فيه كل طرف واجباته, وحقوق الطرف الآخر, ارتباطاً يزيد أواصر المودة والرحمة بينهما, بحيث يصير كل واحد منهما سكناً للآخر, لا شريك فراش فقط, أو مقيماً بالإكراه ينتظر فرصة حل هذا الارتباط الواهي في أي وقت.

وسأختم مقالي هذا بقول الشاعر اللبناني أحمد تقي الدين (1888 ـ 1935م) الذي يدعو فيه الطرفان لتقوى الله وتذكر ما عليه تجاه شريكه:

إن الحقيقةَ حدثتني بالرِّضى .......      أَن الرجالَ مع النساءِ سَواءُ

فليتقِ اللهَ الرجالُ ويعلموا ..........      أَن النساءَ نظيرَنا أحياءُ

وليتقِ اللهَ النساءُ فإنما  ..........     نحنُ الرجالُ وإنهنَّ نِساءُ