الملاعب التي لعب فيها اللعيبي

كاظم فنجان الحمامي

الملاعب التي لعب فيها اللعيبي

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

اللعيبي, ونعني به رئيس المهندسين الأقدم الأستاذ جبار علي حسين اللعيبي, الرجل الذي وقف بوجه العاصفة في أحلك الظروف, فكان من أكفأ اللاعبين في الميادين النفطية, قرأنا وسمعنا عنه الكثير في الصحف الأجنبية والعربية, وتحدث هو عن نفسه بصراحته المعهودة في كتابه الموسوم (تحديات في الزمن الصعب), لكننا لم نعد نسمع شيئاً عنه وعن انجازاته الجديدة منذ أن غادر مكانه في الإدارة العليا لشركة نفط الجنوب, فتذكرنا قول شاعر بني حمدان:

سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

كان لزاما علينا العودة إلى الزمن الصعب, إلى المرحلة التي كانت فيها شركة نفط الجنوب تقف وحدها في مواجهات الهجمات البربرية الشرسة, التي شنتها ضدها القبائل المنفلتة, لنعيد إلى الأذهان تلك المشاهد التي قاومت فيها الشركة غارات عصابات متعطشة للعنف, أعماها الجشع, وأغراها الطمع, وأوهمها الباطل بشرعية ما تقوم به من نهب وسلب وتخريب وابتزاز, حتى وصلت الأوضاع في خريف عام 2003 إلى اليوم الذي اقتحم فيه ثلاثة من رؤساء القبائل المنفلتة في البصرة مقر شركة توزيع المنتوجات النفطية, فهددوا مديرها بقوة السلاح, وطالبوه بتزويدهم يوميا بخمسين طنا من مادة زيت الغاز بالمجان ولمدة ثلاثة أشهر كحق (شرعي) من حقوقهم (الموروثة والمكتسبة), بذرائع وحجج واهية توحي بعودة الزمن إلى شريعة الغاب, فهرع اللعيبي لنجدة زملائه في أرصفة (المفتية), ودخل في مفاوضات مميتة مع رجال القبائل المنفلتة, الذين لم يترددوا من إضافة مطلب آخر إلى مطالبهم الابتزازية, عندما طالبوه بالتنازل عن سفينة الإسناد (النسر) لتوظيفها في تجارتهم, أو لغرض الاستفادة من أجزائها الميكانيكية في مشاريعهم الفوضوية. انتهت المفاوضات بانتصار الحق على الباطل, وخرج الثلاثة مدحورين مهزومين, وكان اللعيبي هو الفائز بما عرف عنه من حكمة في التعامل الحازم مع البرابرة. .

كانت هذه صورة واحدة من آلاف الصور التي تراكمت فوق بعضها البعض لترسم المشهد المأساوي للظروف التي مرت بها شركة نفط الجنوب في البصرة بعد عام 2003, والتي كان فيها اللعيبي هو اللاعب المتميز في مواجهة التحديات الفوضوية الخطيرة. .

لقد تعرض القطاع النفطي بعد أحداث عام 2003 إلى هزات عنيفة تمثلت بسلسلة متواصلة من عمليات النهب والسلب والتخريب والدمار, لكنها لم تصل إلى مصفى البصرة بسبب وقوعه عند مقتربات الخطوط القتالية للقوات البريطانية الزاحفة نحو البصرة, فجأة انهار كل شيء واختفت المنشآت النفطية من فوق سطح الأرض, كان اللعيبي شاهدا معنا على تداعيات هذه الفوضى العارمة التي اكتسحت البصرة, ففكر بترك العمل في القطاع النفطي والتوجه إلى مزاولة مهنة أجداده في تجارة التمور عبر المنافذ المينائية, بيد انه لم يستطع تنفيذ تلك الفكرة بسبب الضغوط الكثيرة التي انهالت عليه من وجهاء البصرة, فأناطوا به مهمة الإشراف على القطاع النفطي في الجنوب, والذي كان وقتذاك عبارة عن أشلاء مبعثرة في جوف الصحراء, كانت سحب الدخان الأسود تخيم على أجواء البصرة, وأصوات الانفلاقات الجوية تهز أركانها في الليل والنهار, وألسنة النيران تلتهم ما تبقى من مخازن الشركة في باب الزبير, لكنها لم تكن حتى تلك اللحظة بمنأى عن غارات اللصوص والمخربين والعابثين, الذين كانوا يحملون الأسلحة النارية الخفيفة والخناجر والسكاكين. .

بيد ان تلك الأيام لم تثن عزيمة القوى الخيرة من الوقوف صفا واحدا بوجه العناصر الشريرة, فتضافرت سواعدهم الوطنية لنجدة الشركة, وشرعوا ببنائها من مرحلة الصفر بمواردهم الذاتية المتواضعة, فاستأجروا في بداية الأمر سيارة واحدة تنقلهم يوميا إلى حقول الرميلة الجنوبية, وهيئوا لهم غرفة واحدة خارج مبني الشركة, أثثوها حينذاك ببعض قطع الأثاث المكتبي المبعثر هنا وهناك, كانت تلك الغرفة هي النواة التي كتب لها النجاح في رسم خطوات البناء ومواجهة التحديات الصعبة, في ظروف قلقة لا تتوفر فيها ابسط مستلزمات الأمن والأمان, وفي غياب تام لسلطة الدولة المنهارة, ووفي خضم  طغيان عصابات النهب والسلب, في الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية الزاحفة نحو البصرة تغض النظر عن تحركات اللصوص, وتوفر لهم الغطاء اللوجستي لتنفيذ أعمال التخريب والحرق والتدمير. .

وعلى الرغم من كل المعوقات والعراقيل والصعاب التي واجهتها الشركة, استطاعت أن تتجاوز الخطوط الصفرية وتستعيد بعض عافيتها القديمة, مقتنعة بالحد الأدنى من النجاحات الطفيفة المحدودة, حتى استطاعت في 7/4/2004 أن ترتقي بمستوى الإنتاج إلى (50) ألف برميل يوميا, وقفزت في نهاية الشهر السادس من العام نفسه إلى (500) ألف برميل يوميا, وقطفت في منتصف الشهر السابع ثمار نجاحها بتصدير أول شحنة من النفط الخام, وتصاعدت وتيرة الإنتاج في منتصف عام 2004 لتتجاوز الأرقام المسجلة قبل السقوط بجهود عراقية خالصة, ومن دون أي مساعدة أجنبية من الخارج, فاستصلحت أكثر من (300) بئر نفطي, بينما توقف إنتاج الغاز كليا في حدود المعدلاته الصفرية حتى يوم 7/4/2003, لكنه استعاد نشاطه ابتداء من حقل الزبير الذي أنتج ولأول مرة (70) مليون قدم مكعب يوميا, ولحق به حقل (نهران عمر) لينتج ولأول مرة نحو (80) مليون قدم مكعب يوميا, وما أن دارت الأهلة دورتها حتى أصبحت شركة نفط الجنوب في طليعة الشركات العراقية المنتجة بقيادة اللاعب الأساسي لفريقها المتميز في الإبداع والإنتاج والتألق والتفوق, فسجل اللعيبي أروع انجازاته ببناء المجمعات السكنية المعاصرة والتي احتضنت أكثر من (1730) دار سكنية, وزعها على العاملين في القطاع النفطي, واستطاع أن يشيد (23) مستوصفا طبيا مجهزا بالكامل بالمعدات الطبية الحديثة, واستطاع أن يبني مجموعة متكاملة من دور الاستراحة في البصرة والرميلة والبرجسية, و(14) مسجد, وتبليط عشرات الكيلومترات من الطرق, وبناء الجسور والقناطر, والقيام بحملات تشجير شاملة لمدينة البصرة, وتزيينها بالواجهات الجميلة, وقام اللعيبي أيضا ببناء معاهد التدريب والتأهيل, ومراكز الحواسيب الحديثة, وتوزيع (5500) قطعة سكنية على منتسبين الشركة في مناطق الطوبة والنخيلة, وحصل على (6000) قطعة أرض في منطقة شط العرب لصالح المنتسبين, ووضع الحجر الأساس للبرج النفطي الذي سيتوسط مركز المدينة (عند المكينة), وهو برج حديدي مؤلف من (16) طابق.

حملت مذكرات الرجل سجلا حافلا بالمنجزات الميدانية الرائعة, نذكر منها: تطوير حقل (مجنون) وتحقيق طاقة (100) ألف برميل يوميا, تطوير حقل (غرب القرنة) وتحقيق طاقة (350) ألف برميل يوميا, تطوير حقل (حلفاية) وتحقيق طاقة (30) ألف برميل يوميا, التطوير الإضافي لحقل (اللحيس), وتحقيق طاقة (75) ألف برميل يوميا, تطوير مكمن (العطاء الثالث) في حقل الزبير, وتحقيق طاقة (180) ألف برميل يوميا, تطوير حقل (إرطاوي) وتحقيق طاقة (50) ألف برميل يوميا, تطوير حقل (الطوبة) وتحقيق طاقة (20) ألف برميل يوميا, تطوير مكامن مشارف الرميلة الجنوبية, التطوير الجزئي لمكمن (السجيل الأعلى), وتحقيق طاقة (40) برميل يوميا, التطوير الإضافي لحقل (بن عمر), وتحقيق طاقة (40) ألف برميل يوميا, تطوير حقل الناصرية, وتحقيق طاقة (20) ألف برميل يوميا, تطوير حقل (نور ميسان), وتحقيق طاقة (15) ألف برميل يوميا, بناء المحطات النفطية في الحقول الحدودية, عند (الرطـة), و(صفوان) المحاذية للحدود الكويتية, ومحطات (الفكة), و(أبو غراب) في ميسان بمحاذاة الحدود الإيرانية, والاهتمام بحقول (الناصرية) وتطويرها. . .

كانت هذه هي الملاعب التي لعب فيها اللعيبي, والتي حقق فيها فوزا متقدما في ظروف استثنائية قاهرة, فأين هو الآن ؟, وماذا يعمل ؟, كان وحده كتيبة من الرجال الأشداء, يتنقل في قلب الصحراء بين ملاعبه النفطية, يتفقد معدلاتها الإنتاجية من النفط الخام, يستمع بعمق إلى مواقف المهندسين والفنيين, يبتكر الحلول المناسبة لكل العقبات التي تواجههم, كان متألقا في أدائه الإداري والإنتاجي, دقيقا في قراراته القائمة على أسس التشاور الفوري المباشر بين الأعلى والأدنى, قريبا من قلوب الناس في البصرة وضواحيها, كسب ودهم من دون تضليل, ونال احترامهم من دون تطبيل, فتبوأ مكانة مرموقة في ذاكرة البصرة, وجاء ترتيبه في المركز الثاني بعد مزهر الشاوي رحمه الله, ولسنا مغالين إذا قلنا إنه حاول أن يقتفي أثر الشاوي, وينتهج نهجه في تجميل مدينة البصرة وشوارعها, لكنه غادر موقعه فجأة, وتوارى عن الأنظار, فخسرته البصرة, وانقطعت صلته بملاعبه النفطية التي تألق فيها, وكان كمغنية الحي التي غابت عن الأنظار, ولم نعد نسمع ترنيمتها الجميلة على ضفاف شط العرب. .

قديما وقف أبو الفرج ابن الجوزي على مشارف العراق, رافعا عقيرته بهذه الأبيات الخالدة من بحر (المتقارب):

عَذيري من عُصبةٍ بالعراق وقلبهم بالجفا قُلَّبُ

يرون العجيبَ كلامَ الغريبِ وأمّا القريب فلا يُطرِبُ

وعُذرُهمُ عند توبيخهمْ (مُغَنية الحَيِّ لا تُطرِبُ)

وربما سمعه القاضي (ابن عبدوس) وهو في صومعته الأندلسية, فنسج على منواله هذه الأبيات الجميلة:

أراك ظريفاً مليحَ الجوابِ فصيحَ الخطابِ فما تطلبُ

فقال أما قد سمعتَ المقال (مُغَنَّيةُ الحَيِّ لا تُطرِبُ)

كان هذا في قديم الزمان, اما اليوم فيبدو إن مغنية الحي مُنعت من الغناء نهائيا, وربما فقدت مكانتها في المنتديات النفطية العراقية, ولا ندري إن كانت تعرضت للإصابة بشظايا ظاهرة وأد الكفاءات, فأقعدتها عن العمل ؟, أم إنها مازالت تعوم ضد تيارات المحاصصة السياسية بانتظار من يرمي لها طوق النجاة فينتشلها من بحر الإهمال, ويعيدها إلى شواطئ التكنوقراط ؟؟؟. .