حزيران.. الماضي الحاضـر
حزيران.. الماضي الحاضـر
د. لطفي زغلول /نابلس
يحيي الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات الذكرى السنوية الخامسة والأربعين لحزيران/يونيو 1967 الذي أسفر عن احتلال بقية الوطن الفلسطيني على أيدي الإسرائيليين، إضافة إلى أراض عربية في كل من سورية ومصر.
في غمرة التقوقع القطري الذي مني به الوطن العربي، وتحت ظلال تراجع المد القومي، يطل حزيران هذا العام للمرة الخامسة والأربعين ليقرع ناقوسه مذكرا العرب أنظمة وجماهير من المحيط إلى الخليج، أنه ما زال قضية عربية شاملة، الأمر الذي يفرض عليهم أن يكرسوا له بدافع النوايا الصادقة الجهد الجهيد، والقرارات ذات الرصيد، لإزالة اللون الأسود الذي اتشح به على مدار الخمسة والأربعين عاما المنصرمة، بهدف إعادة طلائه بلون آخر، لا تفوح منه رائحة الهزيمة والتخاذل والعجز.
مر على حزيران/يونيو 1967 خمسة وأربعون عاما منذ أن دخل أجندة القضية الفلسطينية، وشكل واحدا من أخطر مفترقاتها. هو في حكم الزمن ماض، إلا أن هذا الماضي ما زال حاضرا حتى اللحظة الراهنة، وعلى ما يبدو إلى ما بعدها. وإذا كان الخامس عشر من أيار/مايو 1948قد ألقى بظلاله القاتمة على الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، فقد جاء حزيران/يونيو العام 1967 بعد تسعة عشر عاما من النكبة، ليفرز تداعياته المستدامة على مجمل الحياة العربية، ولتصبح أسيرتها بصورة أو بأخرى.
إن الحديث عن حزيران ذو شجون وأشجان. على ما يبدو أن الأنظمة العربية السياسية، قد قذفت بحزيران بكل رواسبه وتراكماته وتداعياته وإفرازاته في الساحة الفلسطينية، ونفضت بالتالي يدها منه. لقد أعفت هذه الأنظمة نفسها من كل مسؤولية تجاهه. وهذا يفسر ما يتحمله الفلسطينيون من تبعات التصدي لتحديات الهجمة الشرسة التي يواجهونها وهم وحيدون. لم يعد بخاف على أحد أن الشارع الفلسطيني قد تبلور في تفكيره أنه يخوض معترك النضال من أجل حريته وخلاصه واسترجاع كامل حقوقه والدفاع عن وجوده وحيدا في ظل صمت عربي شبه تام، وتحول ملحوظ في الخطاب السياسي العربي الذي فقد كثيرا من المفاهيم والمصطلحات القومية ذات الصلة بالقضية، ناهيك عن انخفاض وتيرته وافتقاره إلى عناصر الحمية والحرارة والمصداقية.
إنه حزيران/يونيو الخامس والأربعون يحمل مرة أخرى حقائبه المثقلات بالشجون والأشجان. يرحل عن فضاء الوطن. يغادره ولا يغادره. يغادره رقما، ويبقى ساكنا إياه هما مستداما. ها هو حزيران السادس والأربعون يدخل أجندة القضية الفلسطينية بكل إفرازاته الإحتلالية الكارثية المأساوية، مشكلا واحدا من أخطر مفترقاتها التاريخية والجغرافية.
إن حزيران/يونيو يختزن في طياته ذكريات أليمة، وتداعيات خطيرة أفرزت الكثير من الإنتكاسات العربية على صعد شتى وما زالت. كما أنه يؤكد على حقيقة لا يستطيع أن يتهرب أحد منها وهي أنه مسؤولية عربية مشتركة يتقاسمها الوطن العربي أنظمة وشعوبا. وهو وإن تقادم الزمن عليه لم يصبح بعد " فعلا ماضيا "، بل هو حاضر ويزحف على ما يبدو نحو المستقبل. علاوة على أنه لا يخص قطرا عربيا بحد ذاته، بل هو غمامة سوداء تظلل الوطن العربي شرقه وغربه شماله وجنوبه، وتدمغ تاريخه بالهزيمة.
إن هذه الأعوام الخمسة والأربعين من عمر القضية الفلسطينية هي الأخطر على الإطلاق. كثيرة هي إفرازاتها على كافة صعد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بخاصة، يصعب الوقوف عند كل واحد منها في هذه العجالة. إلا أنه وبرغم هذا البحر المتلاطم من الأحداث في أكثر من اتجاه متعاكس، فبالإمكان الوقوف عند محطات معينة بحد ذاتها تركت بصماتها التي لا تمحي على مسيرة القضية الفلسطينية ومسارها.
المحطة الأولى كانت هي الإحتلال الإسرائيلي لبقية التراب الفلسطيني، وما أحدثه ذلك من صدمة أيقظت الشعب الفلسطيني من إغماءة النكبة الأولى في العام 1948، فأعادته إلى بؤرة الحدث الذي يخصه وجها لوجه مع المحتل لأرضه التاريخية، بعدما هيء للكثيرين أن هذا الشعب قد خرج من خارطة وطنه، أو أنه تم تغييبه عنها تحت ظروف جغرافيات، ومسميات فرضت عليه غداة نكبته الأولى في عام 1948. في حقيقة الامر كانت تسعة عشر عاما عجافا عاشها الشعب الفلسطيني على ما تبقى له من وطنه، وفي منافي الشتات.
المحطة الثانية تمثلت في إدراكه العميق لحتمية إدارة قضيته بنفسه في الدرجة الأولى غير متجاهل عمقه العربي. إنطلاقا من هذه المحطة، إنتقلت منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست في العام 1964 إلى الصدارة لتأخذ مكانها المفترض أن تكون فيه آخذة على عاتقها مشروع تحرير الوطن من الإحتلال، واستكمال الإستقلال، وإقامة الدولة أسوة بكل شعوب العالم التي قررت مصيرها بنفسها وتحررت. حتى الآن كانت القضية عربية لها ثوابتها ولاءاتها القومية، وآلياتهاالفاعلة ومنها المقاطعة العربية.
المحطة الثالثة تمثلت في قصر نفس مشاركة العمق العربي لسبب أو لآخر. ترجم هذا التوجه عدم استعداد الأنظمة العربية، وبخاصة ما سمي آنذاك بدول الطوق الإستمرار في لعب دور "هانوي القضية" في الوقوف مع النضال الفلسطيني المسلح، ورفض البعض الآخر أصلا فتح حدوده أمام تبني أي شكل من أشكال المقاومة الفلسطينية.
إستكمالا لسيناريو هذه المحطة فلا تزال مشاهد الصدام الفلسطيني العربي في أكثر من جغرافيا عربية تحتل مساحة من ذاكرة الذين عايشوا أحداثها، وما زال الألم يعتصر جوارحهم حزنا وأسفا على ما آلت إليه من تمزق وفرقة ومزيد من التشتت بعيدا عن الوطن، الأمر الذي فرض تراكمات من أعباء مسؤولية النضال على أبناء الوطن المقيمين فيه.
إن رفع الستار عن مسلسل معاهدات السلام والتطبيع مع إسرائيل غداة حرب الخليج الثانية، وحتى ما قبلها قد جرف القضية الفلسطينية بمجملها لتقف مذهولة عند المحطة الرابعة التي كانت أخطر المحطات حيث تساقطت الثوابت والمواقف واللاءات والآليات العربية الواحدة تلو الأخرى، والتي دون أدنى شك كانت تشكل الظهير والسند القوميين لها.
لقد كانت هذه المحطة الرابعة ككرة الثلج المتدحرجة التي جرفت معها الأخضر واليابس فعرت القضية الفلسطينية، وجردتها من الكثير من سواترها القومية. في لحظات كثيرة وقف الشعب الفلسطيني وحيدا إلا من رحمة ربه مذهولا لا يكاد يصدق هذا الصمت العربي المريب، مستقرئا من خلاله معاني عمقت جراحاته وزادت من مساحة مأساته.
برغم الأجواء العربية والدولية المحبطة، وتحديدا مواقف الولايات المتحدة المنحازة قلبا وقالبا لإسرائيل، وفي ظل التعنت الإسرائيلي على الإلتفاف على الحقوق الفلسطينية وإنكارها جملة وتفصيلا، كان لا بد للشعب الفلسطيني أن يشد رحاله إلى المحطة الخامسة في رحلته الحزيرانية والتي تمثلت في انتفاضتيه الأولى 1987، والثانية 2000 التي نسبت إلى الأقصى المبارك.
لم يكن أمام الشعب الفلسطيني إلا الرد على التحديات التي استهدفت مجمل وجوده على أرضه التاريخية، فخاض غمارها وحيدا في ظل مواقف عربية، فقدت عنصر الوقوف القومي مضيئة النور الأخضر للحكومات الإسرائيلية أيا كان لون طيفها السياسي لتصعيد ممارساتها المتمثلة في قضم الأرض الفلسطينية، والتوسعين الأفقي والرأسي في عمليات الإستيطان، والإصرار على رفض تطبيق القرارات الشرعية الخاصة بالحقوق الفلسطينية، وفرض سلم بمقاسات ومواصفات إسرائيلية على الفلسطينيين، يكون لأمنها فيه مكانة الصدارة والأولوية.
يأتي حزيران/يونيو الخامس والأربعون هذه الأيام في غمرة مسلسل الإجتياحات الإسرائيلية لكل ما هو فلسطيني، ومسلسل الإستيطان والتهويد الذي لا يبدو أن له في المنظور القريب أية نهاية. ولعل أبسط معاني هذا الإجتياح أنه حرب غير متكافئة تشن من طرف يملك كل شيء على طرف لا يملك إلا إصراره على استعادة حقه والتضحية بالغالي والنفيس من أجله.
في ذات السياق، فإن حزيران/يونيو الخامس والأربعين يأتي هذا العام، والأسرى الفلسطينيون في المعتقلات الإسرائيلية، يعانون ما يعانون من عذابات وآلام وممارسات غير إنسانية. هناك الحجز الإنفرادي. هناك الحرمان من زيارة الأهل. هناك الأمراض التي تفتك بأجسامهم. هناك الإعتقال الإداري. هناك أخيرا لا آخرا إضراباتهم عن تناول الطعام احتجاجا على قسوة هذه الممارسات اللاإنسانية بحقهم.
عربيا فان سياسة التخلي عن كثير من الثوابت القومية، وأبسط أشكال التضامن العربي، والتشبث عن ضعف "بخيار السلام الإستراتيجي"، إن كل ذلك، قد أدخل الوطن العربي في مرحلة انعدام الوزن على كافة الصعد.
إسرائيليا، فان إسرائيل برغم هذا الجيش الجرار والترسانة الحربية المتفوقة والمتطورة وخوضها الحرب تلو الأخرى، لم تستطع أن تحقق لحظة واحدة من لحظات الأمن والسلام -، ولا أن تنال من عزيمة الشعب الفلسطيني المصر على الخلاص من الإحتلال الإسرائيلي.
كلمة لا بد منها. إن مسيرة الشعب الفلسطيني المريرة والشاقة عبر محطات أفرزها خمسة وأربعون حزيرانا، ومن قبلها تسعة عشر أيارا، لم تنل من صموده ورباطة جأشه وإصراره على الهدف المتمثل في وضع حد نهائي لاحتلال وطنه، وتحقيق منظومة أمانيه الأخرى. لقد ظل صاحب نفس لا تقوى على إخماده أعتى التحديات وأشرسها، كونه تجذرت في جوارحه عقيدة متوارثة مفادها أنه صاحب حق مشروع.
إذا كان حزيران بالنسبة للشعب الفلسطيني يثير ذكريات مؤلمة وحزينة، فهو بالتالي ما زال يشعل نارا مقدسة في أجياله، وإصرارا على استكمال المشوار مهما طال. وهو في نفس الوقت محطة يقف عندها كل عام يستخلص منها العبر المتمثلة بالتمسك بحقه مهما كان الثمن، والتأكيد على ثوابته في حق العودة، وإقامة الدولة وعاصمتها القدس، وتحرير الوطن من الإحتلال البغيض، وبسط السيادة الوطنية على ترابه المقدس.
في حزيران الخامس والأربعين، وها هو السادس والأربعون قد بدأت أولى أيامه، تتأكد حقائق ثابتة على أرض الواقع. أولاها أن الشعب الفلسطيني لا يمكن قهره إلى الدرجة التي عندها ينسى ما له من حقوق، كما لا يمكن كسر شوكته، أو إذلاله أو إفقاده هذه المناعة المدهشة التي يواجه فيها أعتى التحديات وأشرسها. وإن غدا لناظره قريب.