صفراء أم خضراء؟

صلاح حميدة

صفراء أم خضراء؟

صلاح حميدة

[email protected]

نقاش مستمر يصل لحد الجدل بين الكثير من المهتمّين بما يجري في العالم العربي هذه الأيّام، فالثّورات العربيّة حرّكت المياه الرّاكدة في المجتمعات العربيّة، وأذهلت تلك الثّورات الكثير من الأطراف، وقسّمت العرب والعالم بين مؤيّد ومعارض ومحارب ومتآمر عليها، فمنهم من يؤيّدها ويعتبرها أداةً لكسر الاستبداد ومحاربةً وملاحقةً للفساد، وأنّ أهمّ إنجازاتها أنّها خلعت بعض المستبدّين والفاسدين، وتستمرّ في ملاحقة والثّورة على (فلولهم)، وبالتّالي فهي عبارة عن ربيع  وثورات (خضراء) تجلب الخير للشّعوب في النّهاية، وهناك من يعتبرها خلاف ذلك، ويؤيّد ما يذهب إليه الرّوس بأنّ هذه ثورات (صفراء) موَجَّهة من قبل وسائل إعلام تابعة لأجهزة استخبارات مؤيّدة لدول تقع ضمن المحور الأمريكي، وتهدف لإشاعة ( الفوضى الخلّاقة) لاستنزاف الشّعوب والدّول العربيّة حتّى يتمدّد المشروع الغربي في المنطقة، أو حتّى يضمن أنّ انسحابه لن يؤدّي لنهضتها.

شعوب المنطقة راغبة في تغيير واقع بالغ السّوء، وقد ثارت لتغييره، ولم تخرج على حكّامها إرضاءً للغرب أو عداءً لروسيا أو لإيران أو غير تلك الدّول، فالثّورة قامت بناءً على حاجة ملحّة، وليست ترفاً أو خدمة لأجندات خارجيّة، ويعتبر موقف الكثير من الدّول منافقاً تجاه الثّورات، وما سعي بعض الدّول لتأييد بعض الثّورات والوقوف ضدّ أخرى إلا بهدف احتواء بعضها، أو لتسريع خطوات مشاريع دوليّة أو إقليميّة لدول بعينها، وهي هنا تسعى لكسب الشّارع حتّى لا تخسر كل شيء، بعد أن خسرت المستبد ( الغرب في حالات تونس ومصر واليمن وليبيا)، أو أن تخسر المستبدّ والشّارع معاً ( مثلما سيحصل في الحالة السّوريّة مع روسيا والصّين وإيران).

الثّابت الوحيد في التّعامل مع الثّورات العربيّة هو الموقف الروسي ويليه الموقف الصّيني، فقد وقفا بكل قوّتهما ضدّ الثّورات بدوافع مختلفة بعضها ديني يختصّ بصراعهما مع أقلّيّات كبيرة إسلاميّة سنّيّة في بلادهما، ولكونهما دولتي استبداد وفساد، ولدواع استراتيجيّة ورغبةً في منع أيّ ثورة قد توَحّد العرب والمسلمين، ولذلك يقفون بكل قوّتهم لدعم الشّيعة لإثارة حرب طائفيّة، مثلما قال محلل سياسي روسي بأنّه لا مشكلة لهم مع الشّيعة لأنّ "فكرة الشّيعة قائمة على الحرب بين المسلمين، وأنّ الشّيعة لم يصلوا لأسوار فيينا وروسيا والصّين" حسبما قال.

ولذلك فموقف الدّولتين يهدف لمنع نهضة الدّول والشّعوب الثّائرة، حتّى لا يشكّل ذلك تهديداً لنفوذ تلك الدّول، وسعت هاتان الدّولتان لحرب تلك الثّورات، فيما تسعى دول الغرب لاحتوائها، بل يمكن أن نلمس تواطؤاً بينهم لدفع الأمور لتصل لحرب طائفيّة حتّى يوقفوا عجلة الثّورات العربيّة بتحويلها لحرب طائفيّة، لكيّ وعي الشّعوب العربيّة من أنّ إزاحة  المستبدّين ستؤدّي لفوضى وحروب أهليّة.

بعض من يعتبرون تلك الثّورات (صفراء) وتخدم الأمريكان وخطّة (الفوضى الخلّاقة) كانوا ولا زالوا من أشدّ أعوان الغرب وأمريكا، وهم من أهمّ أدواتهم في المنطقة، ويعملون ليل نهار كمقاولين سياسيّين وأمنيّين لها، وإغضاب الله أهون عندهم مليون مرّة من أن تجرح مشاعر الأمريكان بكلمة أو بموقف، ويعتبرون إرادة أمريكا قضاء يفوق قضاء الله، وإرادتها لا يمكن ردّها ورفضها، والثّورة عليها جريمة، وفي نفس الوقت ينظّرون ضدّ الثورات، بل كان بعضهم من أشدّ أعداء نظام الأسد وأصبح الآن يدافع عنه بحجّة أنّه يتعرّض لمؤامرة أمريكيّة!!، ويلحظ هنا توحّد المستبدين في بوتقة واحدة ضدّ ثورات الشّعوب، وذوبان الحواجز الوهميّة  الّتي كانت تفصل بينهم من قبل، فقد وحّدتهم عداوتهم لحرّيّة شعوبهم.

بعض المتأثّرين بهذه الدّعاية متألّمون من واقع القتل والدّمار الّذي لحق بالشّعوب العربيّة، وبالتّدخّل الأجنبي في بعضها، ويريد هؤلاء أن تكون الثّورات بلا دماء وأن يهرب المستبدّون كما هرب بن علي، ويتنحّوا كما تنحّى حسني مبارك وعلي صالح، ولكنّهم لا يريدون دفع ثمن الحرّيّة إن كان باهظاً، ولذلك فهم يقفون موقفاً سلبياً من قضيّة تحرّر الشّعوب العربيّة خوفاً وإشفاقاً عليها، وليس عداءً لها ولحرّيّتها.

بعض المعادين لتلك الثّورات يقفون هذا الموقف من باب تأييد الغرب وبعض الأنظمة الظّلاميّة العربيّة ظاهريّاً لها، وهذا الموقف نابع من رغبة في تصفية حسابات ومحاولات لاحتواء حركة التّاريخ الّتي تقوم بها الشّعوب العربيّة، ومنطق هؤلاء يقوم على منطق يقول بتأييد الثّورات إن نجحت، أو التّحكّم في تفاصيلها ومدخلاتها حتّى يتمّ ضمان مخرجاتها ومستقبلها، وهو موقف انتهازي لا مبدئي، ولإجهاض هذا المخطّط الشّيطاني يجب الوقوف مع حقوق الشّعوب وثوراتها لنيل حقوقها، وعدم تركها فريسةً لتلك القوى، ولهذا يجب الفصل بين الموقف من تأييد ثورات الشّعوب الهادفة لنيل الحرّيّة، وبين استنكار وإجهاض مخطّطات ومحاولات احتواء تلك الشّعوب ومستقبلها.

بعض المعادين للثّورات يريدون ثورات تأتي بهم لسدّة الحكم، وعندما تأتي بغيرهم ينقلبون ضدّها ويلعنونها، وإذا هزموا في الانتخابات فيجب أن تعاد الانتخابات في اليوم التّالي حتّى تأتي انتخابات تجلبهم للحكم، وعندما يخيّب الشّعب أملهم ينقلبون إلى أعداء له، كمستبدين بثوب ثوري.

بعض القوى لها عداء مستحكم مع " الاسلام السّياسي" وهم يريدون ثورات وانتخابات لا تأتي بالاسلاميين، ولذلك يفضّل هؤلاء العيش تحت حكم المستبدّ على أن يعيشوا في ظل نظام سياسي يكون الاسلاميّون جزءاً منه، وهؤلاء يتمثّلون في أفراد ونخب وتنظيمات وأحزاب ووسائل إعلام ومؤسّسات دولة، ويتبنّى بعض هؤلاء تلك المواقف تبعاً لأيديولوجيا يعتنقها، أو نظراً لحسد من قدرات الاسلاميين على الحشد والعمل وتحقيق الانجازات، وبدلاً من أن يعمل وينافسهم في مجال خدمة الشّعب، لا يقدّم نفسه للنّاس إلا من خلال مهاجمة الاسلاميين في الاعلام والسّياسة، ويخوّفهم منهم، ويشوّه صورتهم بين النّاس ويستنزفهم في جدل سياسي وميداني وبرلماني وأمني وقانوني يبعدهم عن تحقيق أيّ إنجاز للمجتمع والدّولة، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الإسلاميين يساعد هؤلاء في تخويف فئات معيّنة في المجتمع منهم، بأقوال وأفعال يقترفها إمّا حماقةً أو سذاجةً أو بحسن نيّة أو بأجندات تخدم أجهزة أمنيّة تخترقه وتوَجّهه.

بعض النّاس له موقف من الحرّيّة ولا يرغب إلا في الاستقرار في حالة العبوديّة للمستَبد، فهو مستفيد من المستبد بوظيفة أو مصلحة تجاريّة أو سياسيّة أو طائفيّة أو دينيّة أو طبقيّة، فالنّظم الاستبداديّة تربط طبقة واسعة من المستفيدين بها، وهؤلاء مشروع استعباد يقتاتون على فساد تلك النّظم، وبالتّالي يقف هؤلاء صفّاً منيعاً ضد مطالب الشّعوب بالحرّيّة، وهم أوّل من يدافع عنها ويقاتل ويقتل من يثور ضدّها.

البعض كان يقتات على مشروع ( محاربة الإسلام السّياسي) ومن المعروف أنّ هذا المشروع كانت دول الغرب وأمريكا تصرف عليه مليارات الدّولارات، وكانت الكثير من الأنظمة السّياسيّة والأجهزة التّابعة لها تعتاش على العمل كمقاولة لتلك الدّول، ومن الواضح أنّ الدّول الغربيّة ومن خلال موقفها الانتهازي تجاه الثّورات العربيّة، وجدت نفسها أمام حقيقة إرادة الشّعوب الحرّة، وهذه الإرادة أظهرت الإسلاميين كمكوّن رئيسي في الإفراز السّياسي، وبالتّالي كان الاتجاه الغربي نحو القبول بالواقع الجديد، وهذا الموقف الغربي سيقطع أرزاق تلك الأطراف الّتي لا زال بعضها يقدّم نفسه مراراً وتكراراً على أنّه المدافع عن المصالح الغربيّة ضدّ الإسلام السّياسي أو ضدّ " القاعدة" الّتي ثبت أنّها مجرّد قناع تلبسه الكثير من أجهزة المخابرات في العالم، وأنّ لكل جهاز مخابرات " قاعدته الخاصّة به يستخدمها في تحقيق أهدافه" كما ذكر أحد الصّحفيين المخضرمين، ومن الملاحظ أنّ هذا الخطاب لم يستثنى منه أحد من المستبدّين الّذين يواجهون ثورات شعوبهم.

من الواضح أنّ من يعتبرون أنّ هذه الثّورات (خضراء) هم في النّهاية من يرغبون في تحقسق الحرّيّة والمشاركة ومكافحة الفساد، في حين تتمّ محاربتها من قبل طرفين:-

الأوّل: يرغب في احتوائها وإجهاضها وتفريغها من مضمونها الخيّر، وهذا الأسلوب لا يخفى على أحد، لأنّ تلك الأطراف معادية لحرّيّة الشّعوب، ولم تكن يوماً مناصرةً لها، وتسعى تلك الأطراف لالتصاق بالثّورات لإثارة الشّكوك والتّساؤلات حول أهدافها وتشويهها في عيون النّاس، ولتقوية حجّة المستبدّين وأبواقهم الإعلاميّة بأنّ تلك الثّورات ( صفراء).

الثّاني: هم كل الأطراف المعادية لتلك الثّورات بشكل علني، وتنعتها بالثّورات ( الصّفراء) استشعاراً منها بالتّهديد الّذي تشكّله تلك الثّورات على مصالحهم وحكمهم. وهم يسعون لتشويه والتّخويف من الثّورات ونتائجها، حتّى يبنوا حاجزاً منيعاً بينها وبين شعوبهم، ويوقفوا حالة (الدّومينوز) الثّوريّة الشّعبيّة العربيّة، ولكن يغيب عن بال هؤلاء أنّ حركة التّاريخ لا يمكن وقفها، وأنّ قدر الله واقع لا محالة.