حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصرُ الله؟!
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
متى نصرُ الله؟!
م. محمد عادل فارس
كثيراً ما تتردد على ألسنة الكُتّاب والخطباء عبارة تقول: علينا أن نبذل الجهد، ولسنا مسؤولين عن النتائج، لأن ترتيب النتائج على الأسباب يكون بأمر الله!.
هذا الكلام بجملته صحيح، لكن التعامل معه، بين مُفْرط ومفَرِّط، يؤدي إلى تباين كبير في فهمه أولاً، وفي قبوله أو رفضه انتهاء.
وحقيقة الأمر ترتبط بفهم المسلم لكلمة "التوكل". فمع أن عامة المسلمين يدركون أن التوكل على الله لا ينفي الأخذ بالأسباب، تراهم، في واقع الأمر، يجْنحون ذات اليمين وذات الشمال...
فالعاجز الذي "أتْبَعَ نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني" [1] يستمرئ الكسل والقعود، ويبخل بالجهد والمال، فضلاً عن بخله بالروح والنفس، ويقدّم للأهداف الكبرى جُهْد المُقِلّ، وفضلات المال، وينتحل الأعذار، ويفلسف الشح والجبن، ويتبرَّم بأي بلاء يناله أو ينال ذويه... ثم لا يجد حرجاً أن يستبطئ الفَرَج والنَّصر، أو يعلّق الإخفاق على (شمّاعة) الآخرين، ويربط رضاه بما يناله من مكاسب ذاتية )فإن أصابه خيرٌ اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه(. سورة الحج: 11.
وببساطة، فإن هذا الصنف من الناس يسعى باتجاه التنصُّل من المسؤولية عن النتائج، فهو، في زعمه، قد قدَّم ما عليه، وليس عليه الوصول إلى الأهداف، فهذا الوصول مرتبط بقضاء الله وقدره. وإذا كان هناك تقصير ما، في الأخذ بالأسباب، فليس ذلك تقصيره هو، إنما هو تقصير الآخرين!.
وبالمقابل نجد آخرين يرقُبون الساحة من بعيد، أو من قريب، ويترصَّدون أخطاء العاملين وقصورهم، ويصفونهم بقِصَر النظر، والتعجُّل، والتخبط... ويحمّلونهم مسؤولية العجز، وتفويت الأهداف والغايات، ويتهمونهم بالتفريط في أسباب التخطيط والإعداد والبناء، وبضيق الأفق، وقلة النضج السياسي، والجهل بأسباب قيام الجماعات والمجتمعات... ويقولون في النهاية: لا تعلّقوا إخفاقكم على القضاء والقدر، ولا تتهربوا من تحمل المسؤولية بحجة أنكم غير مسؤولين عن النتائج.
وقبل أن نعلق على قول هؤلاء وأولئك، نؤكد أن العاملين في الحقل الإسلامي ليسوا بالضرورة من أحد الفريقين، بل إن أكثرهم قد وعى المسألة وعياً صحيحاً، ولئن كان في العمل الإسلامي ضعف فلأسباب أخرى، من داخل النفوس وداخل الصفوف... ومن خارجها.
* * *
إن مسؤولية المسلم عن نتائج عمله لا يمكن إعفاؤه منها مطلقاً، ولا تحميله إياها مطلقاً.
في غزوة أحد، عندما تغير وجه المعركة في ساعتها الأخيرة، ونزلت بالمسلمين الجروح والقروح، وقال بعضهم: أنّى هذا؟! كان ردّ القرآن الكريم: )قل: هو من عند أنفسكم(. آل عمران: 165. وبيَّن لهم أن )منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة(. آل عمران: 165. فأنتم المسؤولون عما حدث..
وفي جانب آخر فإن نصوصاً في الكتاب والسنة تطالب المؤمن أن يدعو إلى الله، ويجاهد ويصبر... ولا ينتظر النتائج، فإن الفرج والنصر، ونزول بأس الله بأعدائه... أمور بيد الله وحده، يحققها وفق حكمته متى يشاء:
)فاصبر إن وعد الله حق، فإما نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينَّك فإلينا يرجعون(. غافر: 77.
)فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً. إنْ عليك إلا البلاغ(. الشورى: 48.
"والله ليُتمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللهَ والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون". رواه البخاري
وليس بين الجانبين تعارض، فالمسلم مأمورٌ ابتداءً بتوجيه قلبه وجوارحه إلى الله، وبذّل ما يملك في سبيل الله، وتوطينِ نفسه على طاعة الله وتقواه، والصبر على ألوان البلاء... فإنْ هو التزم ذلك فقد نصَرَ الله، واستحقّ وعْد الله بالنصر، فإذا تأخر النصر بعدئذ، لأمور ليس له فيها يد، فذلك من أمر الله، لا من مسؤولية الإنسان.
وغالباً ما يكون تأخر النصر، أو نزول البلاء، نتيجة مرض في النفوس، أو خلل في الصفوف )وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحّص ما في قلوبكم(، فقد وعد الله بنصر من ينصره، وبتمكين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
نعم، إن للنصر صوراً شتى ربما لا يفقهها المتعجِّل المتضجِّر، وإن استجابة الدعاء تكون على أنحاء شتى لا يبصرها إلا الذين يفهمون عن الله، ويعيشون في طمأنينة ذِكْرِهِ ... لكن تأخر النصر، أو تأخر إجابة الدعاء، على الصورة التي ينتظرها المؤمن...ومن مقتضى هذا التأخر وذاك أن يعيد المؤمن النظر في عمله، وموقفه، وشعوره، وأن يتأمل قوله تعالى: )إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم (. الرعد: 8.
إنها حقيقة واحدة ذات جانبين: الأول: أن على المؤمن أن يستقيم على الطريقة، وأن يقدِّم في سبيل الله كل شيء، والثاني: أن لله قَدَراً ومشيئة وسُنَناً، تتم الأمور وَفْقها، لا كما يشتهي الإنسان.
وفي ضوء هذه الحقيقة الكبيرة نستطيع أن نفهم النصوص الشرعية:
1- على الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعاة من بعده، أن يقوموا بالتبليغ، وليس عليهم أن يستجيب الآخرون: )فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً، إنْ عليك إلا البلاغ(. الشورى: 48. )إنك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء(. القصص: 56. وقد بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة، وأدّى الأمانة، وعلينا أن نتبع سنته ونسير على طريقه.
2- على الرسل والدعاة من بعدهم أن يتحملوا صنوف البلاء ويصبروا ويَثْبُتوا حتى يأتي الله بنصره: )لتُبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم، ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً. وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور(. آل عمران: 186. )فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل(. الأحقاف: 35. )حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قدْ كُذبوا جاءهم نصرنا فنجِّيَ من نشاء(. يوسف: 110.
3- والنصر لابُدَّ آت لمن نصر الله وصدَق معه: )ولينصُرَنّ اللهُ من ينصُرُه(. الحج: 40. )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم..(. النور: 55. )ولقد كُذّبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدّل لكلمات الله. ولقد جاءك من نبأ المرسلين(. الأنعام: 34.
4- تأخر النصر يقتضي مراجعة الذات: )أوَلمّا أصابتكم مصيبة قد أَصبتم مِثْليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم(. آل عمران: 165.
5- قد يتأخر النصر حتى تقتضي حكمة الله تحقيقه في الوقت المناسب الذي ربما لا يكون خلال أعمار الدعاة والعاملين )فإمّا نرينَّك بعض الذي نَعِدهم أو نتوفينَّك..(. غافر: 77.
المؤمن الحق لا ينفك عن السير في الطريق الصحيح، وهو يوطن نفسه على تحمل البلاء وتأخر النصر، ويراجع نفسه كل حين، لعله أخطأ أو قصَّر فكان ذلك هو السبب وراء تخلُّف النتائج.
وما أحرانا أخيراً أن نعرض أنفسنا على ميزان البيعة التي جعل لها الإمام البنا –رحمه الله- عشرة أركان، يمثِّل التحقُّقُ بها القيم الإيمانية العليا:
"أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة".
والحمد لله رب العالمين.
[1] جزء من حديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن.