ربيع الجزائر ما زال ينتظر
ربيع الجزائر ما زال ينتظر
عبد العزيز كحيل
لا يعنيني موقف السلطة الحاكمة من انتخابات 10 ماي، فهي الرابحة في كلّ الأحوال ولن تخرج الأمور عن السياق الذي خطّطت له مهما كان الفائز، فهي تترك السذّج يتهارشون وتمرّر مشروعاتها بهم أو بدونهم، لكن يعنيني بالدرجة الأولى مشهد الاسلاميين البائس، فقد غدوا أضحوكة في المشهد السياسي الوطني لأنّهم ارتكبوا نفس الأخطاء التي ارتكبوها في الانتخابات السابقة ولُدغوا من ذات الجُحر وبنفس السذاجة ( حتى لا أقول الغباء)، فالأحزاب ذات المرجعية الاسلامية لم تكتف بالمشاركة في الانتخابات رغم علمها أنها – كالعادة – مجرد مسرحية يُخرجها النظام ويُعطي لهم فيها الأدوار الثانوية وإنما أظهرت – وكالعادة أيضا – تفاؤلا عجيبا وأيقنت بالحصول على الأغلبية وصمّت الآذان بالوعود الخيالية في التغيير، وكالعادة – مرة أخرى- جزمت أن انتخابات هذا العام ستكون نزيهة لا تشوبها شائبة، وهي حريصة كلّ الحرص على ذلك ولها من الحضور الميداني الفاعل ما يجعلها تضمن ذلك...ثمّ جاءت النتائج وأصابت هذه الأحزاب بحمّام بارد، فقد ذهبت حساباتاها أدراج الرياح للمرّة الألف.
ما هذا؟ لم يستح قادتها من التذرّع بالتزوير لتبرير أدائهم الهزيل، وتنوّعت أعذارهم لكنّ أحداً منهم لم يبادر إلى مصارحة قواعده بسوء تقديره وتخطيطه، ولا قدّم استقالته، رغم أن الاستقالة هي السلوك السياسي الراقي الذي يعمد إليه من يمارسون السياسة على دراية ويحترمون أنفسهم ومناضليهم .
إنّ هناك مصارحة يجب أن يتقبّلها الصفّ الاسلامي رغم مرارتها تتمثّل في عدّة نقاط:
- ليست الأحزاب الإسلامية عندنا تنظيمات سياسية كما هو متعارف عليه إنما كلّ واحد منها هو في الغالب الأعمّ عبارة عن " زاوية " بالمفهوم الطُّرُقي، فيها شيخ تحيط به القداسة والهالات وحولَه مريدون يتبرّكون به ويتنافسون في تنفيذ رغباته، ورغم نوعية أتباع بعض هذه الأحزاب ومستواهم الثقافي والتزامهم الديني إلاّ أنهم كقاعدة حزبية ليس لهم أيّ نفوذ على قيادتهم، بل تجدهم مع الأسف يبرّرون تقلّبات هذه القيادة وتناقضاتهه وتخبّطها، ويجدون لها المسوّغات الشرعية الأكثر غرابة، فلا يفكّرون في إمكانية وقوعها في الخطإ ولا نقدها فضلا عن محاسبتها.
- أثبتت هذه الأحزاب بتشرذمها وما يميّز بعض قادتها من العداء المستحكم لنظرائه فيها أنّها في حاجة إلى إعادة نظر في "إسلاميتها" التي تقتضي التوافق حول المشروع الواحد بتنوّعه والاتّصاف بالأخلاق الرفيعة في التعامل فيما بينها على الأقلّ .
- إنّ ما آلت إليه شعبية الاسلاميين نتيجة حتمية لانبطاح حزبهم الأكبر " حمس " أمام النظام انبطاحا يراه الأعمى، فقد انتقلت من حركة كبيرة نشطة ذات مشروع وكوادر كُفأة ووزن سياسي إلى ذيل يتمسّح بأعتاب السلطة من غير طائل، ففقدت بريقها ومصداقيتها يوما بعد يوم حتى تلقّت الضربة القاضية يوم 10 ماي، ولن يصدّق أحد مبرّراتها سوى مَن تبقّى لها من مناضلين تسيّرهم قاعدة " معزة ولو طارت ".
- ويتحمّل السيد عبد الله جاب الله قسطا كبيرا من المسؤولية عن مأساة الحركة الاسلامية ، ومنذ مدّة طويلة، وذلك بسبب تضخّم الذات عنده، الذي يمنعه من ايّ تقارب مع مكوّنات التيار الاسلامي إلاّ إذا كان هو زعيمه الأوحد، وكم أّجهضت من مساع توفيقية بسببه منذ أمد بعيد، وما زال يرفض دروس الواقع والتاريخ والدين والسياسة، ولا شكّ أن أحسن موقف كان يجب أن يبادر به إثر هذه الانتخابات – ومعه، بل قبله السيد أبو جرة سلطاني – هو الاستقالة والانسحاب من الحياة السياسية.
- ويبقى الأهمّ من كلّ هذا أن تغيّر الحركة الاسلامية مسارها تغييرا جذريا لتستعيد مكان الريادة في المجتمع بعد أن ذهب بها النظام بعيدا في أودية التيه بالترغيب والترهيب والتضليل الذي تملك قابلية كبيرة له مع السف،
إنّه لمن المضحك أن يظنّ قادة الأحزاب الاسلامية الجزائرية أنّ بإمكانهم استنساخ تجارب تونس ومصر وحتى المغرب متناسين أن نظراءهم هناك أثبتوا جدارتهم في السجون وساحات المعارضة الواعية الفاعلة وليس في أروقة الأنظمة الحاكمة ، والشعب لا ينسى خيانة الأمانة إذا صدرت عن المتحدثين باسم الاسلام، وما المواقف المرتبكة التي أعقبت نتائج الانتخابات وما تضمنته من اتهامات وتهديدات سوى مسكّنات تَكرّر استعمالها حتى فقدت فعاليتها نهائيا على جميع المستويات.
هنا يبرز دور القواعد الاسلامية التي أرى أنها مسؤولة تماما مثل قياداتها عن الهزال الذي أصاب الحركة الاسلامية بكلّ أطيافها ، وأرى ان الخسارة التي لحقتها لا يمكن جبرها سياسيا لأن الشعب سحب الثقة ولأن المصداقية قد تآكلت نهائيا، فبقي أن تعود القواعد إلى نقطة البداية وإعادة التأسيس عبر العمل الدعوي الخالص لوجه الله تعالى، والبلاد والعباد في أمسّ الحاجة إليه من غير شكّ بعد أن أفسد "البوليتيك" العقول والقلوب والجوارح، كيف لا وقد أصبحت هذه الحركات الاسلامية مجرد أحزاب دنيوية تلهث خلف الفُتات الذي تتفضّل به السلطة الحاكمة وتستسيغ الوسائل والأدوات غير الشرعية بعد أن تخلّت عن المشروع الاسلامي علنًا وممارسةً وتتشدّق بتطبيق " برنامج الرئيس ".
إنّ خدمة الدين والأخلاق وتكوين الانسان الصالح والتمكين للقيم النبيلة عمل مرهق لم يعد له وجود في الجزائر إلا قليلا بعد ما أصبح كثير من الدعاة سياسيين محترفين وفاشلين تركوا ساحة الدعوة وركنوا إلى الدنيا وجرّوا معهم طاقات كبيرة فعطّلوها أو أركضوها في باطل وحشدوها في خدمة مشاريع لا علاقة لها بالإسلام ولا بالصالح العام، فلا مناص ولا طريق سوى استئناف العمل من جديد على قواعد ربانية صادقة بأيدي المخلصين الغيورين على دينهم وبلدهم لإعادة بعث المشروع الاسلامي ، والشباب ينتظرون هذا الاستئناف وكذلك كثير من الرموز الدعوية وقادة الفكر والحركة الذين نأوا بأنفسهم عن زجّ الطاقات الاسلامية في خدمة برامج السلطة الحاكمة وارتضوا المقاعد الخلفية والعمل الصامت .
لم يبق في تقديري عذر لأبناء الصحوة في اتباع طريق ثبتَ خطِؤه ألف مرة
ودقت انتخابات 10 ماي المسمار الأخير في نعشه، والعودة إلى العمل الدعوي المؤسسي كفيل بتجميع القوى وضخّ الدماء الجديدة حتى إذا تقرّر خوض النشاط السياسي كان برؤية واضحة منقطعة عن عهد الانبطاح والعنتريات الفارغة، حاملة لمشروع واضح القَسمات ينشُد التغيير السلمي ويستعيد المصداقية الضائعة شعبيا ويكون البديل الذي تنتظره البلاد، وأظنّ انه من العيب أن تعلن أطراف انتماءها لجماعة الإخوان المسلمين أو لحزب العدالة التركي ثم لا نجد لديها ما عند هؤلاء من حنكة وثبات على المبادئ وتجرّد.
إنّ الربيع الجزائري لن تصنعه القيادات التي فضحتها الصناديق ولا ردود أفعالها المتشنّجة ولا تهديداتها الغاصبة ولكن سيصنعه رأي عام واع أرى ان يعود به الدعاة إلى عهد المأثورات ورياض الصالحين وأوراد الصباح والمساء مع التوعية الفكرية والسياسية اللازمة لتكوين جيل رباني يشيّد بناء حضاريا بنفًس طويل استنادا إلى التجسيد العملي لقيم الاسلام وأحكامه وأخلاقه على أنقاض الارتجال والرؤية الدنيوية القاصرة ...هذا أو سنبقى ننتظر الربيع من غير طائل.