شباب بين الجرأة والحكمة
شباب بين الجرأة والحكمة
د. نعيم محمد عبد الغني
تراث أمتنا حافل بنماذج من الشباب الذين ظهرت فيهم الجرأة من غير تهور، والحكمة من غير جبن، فكانت قوتهم خالية من العنف، وكان لينهم من دون ضعف، ونحتاج إلى هذه النماذج في هذه الأيام التي أدى فيها تهور الشباب إلى خسائر على أنفسهم وأهليهم، خاصة عندما تأخذ الحماسة الشباب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومعنا موقفان يدلان على هذه الفكرة، الموقف الأول كان في حضرة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، والموقف الآخر كان أمام هشام بن عبد الملك. وفي الموقفين نرى حكمة الشباب وجرأتهم، وفي الموقفين درس لكيفية أخذ الحقوق بلطف والخروج من أصعب المواقف بأكثر المكاسب.
أما الموقف الأول فقد روي عن أمير
المؤمنين معاوية بن أبي سفيان "رضي الله عنه" أنه خرج حاجا, ولم يترك شيئا إلا وقدم
به إلى مكة والمدينة من دراهم ودنانير وطيب ودواب, فلما وصل إلى المدينة, قسّم
المال على أهلها وأكثر, وبعث إلى رجل من الأنصار بألفي درهم وعشرة أثواب, والرجل
الأنصاري من أهل بدر, فما أتاه رسول معاوية بذلك العطاء غضب, فقال: أما وجد معاوية
من يرسل إليه بهذا العطاء غيري? اردده عليه, فقال الرسول: لا أقدر على ذلك, فدعا
الأنصاري ابناً له وقال له: يا بني أسالك بحقي عليك ألا رددت هذا العطاء على معاوية
وضربت به وجهه, فأخذها ابن الأنصاري, وأتى إلى معاوية, فعرف الشر في وجهه, فقال له
ما تريد? فقال: أبي يقرئك السلام, ويقول لك: أمثلي يرسل إليه بهذا العطاء? فقال
معاوية: من الرسول إلى أبيك? فقال: فلان , فقال معاوية: قاتله الله, إنما هو أخطأ,
ودفع إلى أبيك عطاء رجل غيره, ثم قال: يا غلام, علي بعشرة آلاف درهم, وثلاثين ثوباً
وجّلة ووصيفا, وعجّل ذلك , فأحضر الجميع, وقال: يا ابن أخي , خذ هذا واعتذر لي عند
أبيك, وعّرفه بخطأ الرسول.
فقال: يا أمير المؤمنين, إن للوالد حقاً, وله أمر مطاع, وقد أمرني بشيء, فقال
معاوية: وما هو يا ابن أخي، قال: إنه لما دفع إليّ هذه الثياب, قال: بحقي عليك ألا
ما ضربت بها وجهه, فقال معاوية: يا ابن أخي, أطع أباك, وارفق بعمك , فتقدم الغلام
وضرب بها وجهه ثم انصرف.
إن هذا الموقف فيه جملة من الأمور:
الأول: أن الرجل غضب من عطائه وكان رد فعله عنيفا، واستغل مناخ الحرية في إبداء الرأي، ليأمر ولده بأن يعبر الابن عن غضبه بشكل غير مناسب.
الثاني: لما رأى الابن أن أباه في حدة وكان عصبي المزاج تلطف بالقول إلى أمير المؤمنين الذي قدر موقفه بأن الشاب وقع بين شقي الرحى إما طاعة والده التي ستجر عليه خسارة كبرى، وإما عصيانه التي قد تندرج ضمن عقوق الوالدين، ولكن الشاب فكر وكانت جرأته مغلفة بالحكمة، وخرج من الموقف بأكبر المكاسب.
والموقف الثاني فقد حُكِي أن البادية قحطت في أيام هشام بن عبد الملك، فقدمت عليه العرب، وهابوا أن يكلموه، فلما جلس إليهم دخلوا عليه وكان فيهم فتى يبلغ سنه أربع عشرة سنة؛ فنظر إليه هشامٌ والتفت إلى حاجبه وقال: ما شاء امرؤ أن يدخل عليّ حتى الصبيان؛ فوثب الفتى بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين؛ إن دخولي عليك لم يحط بقدرك ولكنه شرفني؛ وإن هؤلاء الوفود ائتمنوني واتمُّوا بي؛ وقدموا في أمر فهابوك دونه؛ وإن للكلام نشراً وطياً، وإنه لا يُعرَف ما في طيه إلا بنشره، فإن أذن لي أمير المؤمنين أن أنشره نشرتُه، فأعجبه كلامه وقال له: انشره لله درك، فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه أصابتنا سنون ثلاث؛ سنة أذابت الشحم؛ وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم، وفي أيديكم فضول مال، فإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لهم فعلام تحبسونها عنهم، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم، فإن الله يجزي المتصدقين؛ فقال هشام: ما ترك الغلام لنا في واحدة من الثلاث عذراً، فأمر للبوادي بمائة ألف دينار، وله بمائة ألف درهم، ثم قال له: ألك حاجة؟؛ قال: ما لي حاجة في خاصة نفسي دون عامة المسلمين، فخرج من عنده وهو من أجل القوم.
هذا الموقفان على طرافتهما يبينان حكمة الشباب وجرأتهم، وهذا ما نحتاجه في مثل هذه الأيام.