مكانة القلم وأهمية التدوين
م. أسامة الطنطاوي
إن للقلم أهمية ومكانة رفيعة في ذاكرة حضارتنا الاسلامية حيث يقول رب العزة في كتابه المبين : ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))
وقوله سبحانه : ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)).
والإقسام من الله تعالى لا يُتبَع إلا بشريف ما أبدَع وكريم ما صنَع، ومن ذلكم القلم الذي هو آلة الكتابة وأول مخلوقات الله تعالى كما ورد في الحديث الشريف.
كما قال الفيلسوف العالمي كونفوشيوس: «إن أضعف حبر يكتب به القلم لهو أقوى من أقوى ذاكرة إنسانية».
وجدير بالذكر أن فلسفة كونفوشيوس كانت قائمة على القيم محافظا في نظرته إلى الحياة الأخلاقية.
ولكن الحكام على زمانه لم يكونوا من رأيه ولذلك لقي بعض المعارضة. وقد اشتدت هذه المعارضة بعد وفاته ببضع مئات من السنين أحرقوا كتبه وحرموا تعاليمه.
ولكن ما لبثت تعاليم كونفوشيوس أن عادت أقوى مما كانت وانتشر تلاميذه في كل مكان.
واستمرت فلسفة كونفوشيوس تتحكم في الحياة الصينية قرابة عشرين قرنا، أي من القرن الأول قبل الميلاد حتى نهاية القرن التاسع عشر بعد الميلاد.
والقلم هو خطيب الناس وفصيحهم وواعظهم وطبيبُهم، بالأقلامِ تُدارُ الأقالِيم وتُساس الممالِك، القلمُ هو نِظامُ الأفهام وبريدُ اللسان الصامت، والكتابة بالقلم شرف ورفعة للمرء وبضاعة رابحة، هي للمتعلم بمنزلة السلطان وإنسان عينه بل عَين إنسانِه، بالقلم تخلَّد العلوم وتثبُت الحقوق، ولولا الكتابة لانقَطَعت أخبار بعضِ الأمم واندرست السنَن ولم يعرف الخلف مذهبَ السلف.
لقد فاخَر كثيرٌ من المسلمين بالقلم حتى جارَوا به السيفَ والسنان، نعم لقد فاخر بذلك علماؤهم وشعراؤهم وبلغاؤهم ووعاظُهم، لقد رَقَموا بالقلم الجادّ صحائفَ الأبرار ليُحطّموا به صحائف الأشرار، ولقد أثّرت أقلامهم في إرهاب العدوّ عن بُعد ما لم تؤثّره السّيوف عن قُرب، لقد كانت نواياهم إبراز الخير لأمة الإسلام؛ نصحًا وإرشادًا، وأحكامًا وفقهًا، وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، وأدبًا وشعرًا لا يخرمان المروءة ولا يثلمان الرزانة والمنطق، لم تكن أقلامهم مأجورةً يومًا ما، ولم يقترفوا بالقلم ما يخدش حياء أمتهم أو يحدث ثلمة في هويتها، بل لم يكن همَّهم الإحبار أمام الدرهم والدينار وأمام حظوظ النفس والذات البالية، فضلا عمّا قد يصاحب مثلَ ذلكم من تعسُّف وشقشقةٍ تسترقّ الأقلام أو تجفِّف المحابر؛ لتحتكرَ بقلم لا يشفي من ألم.
إن صِدقُ القلم وفصاحتُه مِن أحسنِ ما يتلبَّس بِهِ الكاتب ويتَّزر بِه العاقلُ، وإنّ الاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورةٌ كما هو الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة ومؤنس في القِلة وزينٌ في المحافل، ناهيكم عن دِلالته على العقلِ والمروءة ورباطةِ الجأش والتبرِّي من ضيقِ العطَن ومصادرة الحقّ وعِشق الهوى الذي يُعمي ويصمّ.
ولابد أن نفرق بين القلم الذي كتب مقادير كل شيء بأمر الله، وبين القلم الذي يكتب به الناس.
فالقلم الذي كتب المقادير شأنه عظيم بلا شك، وهو قلم حقيقي، كالذي يفهم الناس من معاني القلم، لكن لا يقدر قدره، ولا يعلم حقيقة أمره إلا الله؛ فقد روى الترمذي عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم فقال أكتب فقال ما أكتب ؟ قال أكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد)، صححه الألباني في صحيح الترمذي.
أما القلم الذي نكتب به فأمره معروف، وحقيقته وأهميته لا تخفى على أحد، ولا حرج من القول بأنه من اختراع البشر وابتكاراتهم، ولا يتعارض ذلك مع إيماننا بأن أول ما خلق الله تعالى هو القلم؛ لأن هذا القلم الذي كتب الله به مقادير كل شيء غير تلك الأقلام التي يستعملها الناس ويصنعونها على أشكال مختلفة وبصور متعددة، وقلم القدر خلقه الله، أما هذه الأقلام فمن صنع البشر.
ومع أن هذه الأقلام التي يصنعها البشر، بل كل ما يصنعونه ويعملونه هو أيضا من خلق الله تعالى، ولا تعارض بين الأمرين.
و نصيحة بأن تحتفظ معك على الدوام بقلم وبدفتر صغير، لتترفه فيه مع مفرداتك، أو لتدون به سريعا الخواطر والأفكار العابرة التي سرعان ما تذوب في زحمة المشاوير وصخب الدنيا. سيكون هذا الدفتر هو بنك أفكارك ومغارة الكنوز الخاصة بك عندما تخلو إليه في الليل، وقد تقوم المفكرة الألكترونية في الهواتف الذكية مقام القلم والدفتر حيث أن الهدف واحد ألا وهو تدوين الأفكار المبدعة وحفظها من النسيان والضياع .
لا تعتمد على الذاكرة لأن الأمر كما قال كونفوشيوس: «إن أضعف حبر يكتب به القلم على الورق لهو أقوى من أفضل ذاكرة إنسانية».
وإن المسلمين بعامة لفي حاجة ماسة إلى القلم الصادق، إلى القلم الأمين، إلى القلم الصافي من الدخن، إلى القلم الملهم الذي يأخذ بلب قارئه صدقا ونصحا وصفاء، ينشر الحق ويحيي السنة ويدل الناس إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم وحفظ حقوقهم كما في قوله تعالى: ((ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب.....)).
وإن من أهمّ ما بيّنه علماء الإسلام والناصحون منهم أن يكون صاحب القلم متّصفًا بالعدالة والأنصاف وإدراك معنى الحوار السليم؛ لأن الكاتب الجائر ليس له قائد في فكره وقلمه إلا الهوى والتدليس والتلبيس والتهويش والتشويش، ولربما زاد ونقص وحرّف وأوّل، فكان كمن وصفَهم الله بقوله : ((تَجْعَلُونَهُ قَرٰطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)) وإذا كان الناس يُكبّون على وجوههم في النار بسبب حصائد ألسنتهم مع أن اللسان يفنى وينقطع حديثه، فما ظنكم بالقلم الذي يطول تسطيره ويبقى حيًّا وإن مات صاحبُه وأضحى فُتاتًا.
وكما قال الشاعر:
قلَمـان لـو تعرفهمـا لعـرفتَ نـوعَ مدادي
قلمُ الرزيـن وعكسـه قلـم السفيه الصـادي
فـاختر لنفسك واحـدًا ينجيـك يـومَ معـادي
ضع القلم واهجر الكتابة عندما تكتب لتعيش وابحث عن مهنة أخرى ،فالكتابة رسالة وعقول الناس أمانة والقلم شاهد والموعد القيامة ،والله يحكم بين عباده.
فلا حاجة للكتابة متى أدت إلى الإثم والجَنَف، كما أنه لا حاجة للكتابة متى أدت إلى النِّزاع والشِّقاق بين المسلمين ، حيث أن الكتابة تنفع ما لم يكثُرِ الخلاف فيما بينهم ، فإذا كثُر الخلاف، فلا أثر للكتابة لنزع ما بينهم من تنازع.