الثلج يأتي من النافذة
يسري الغول
جاءت هدى على غير عادتها. جاءت دون أن تطرق أبواب الفقراء والمشردين واللاجئين والمهجرين في ربوع وطننا العربي الممزق. جاءت فزرعت البياض في كل الأمكنة دون أن تزرع الرحمة في قلوب الأنظمة العربية التي تغافلت عن واقع هذه الأمة المرير، بل قامت بقتل كل نفس ثوري يسعى للحرية والعدالة والديمقراطية الحقة. فما تزال سوريا تموت من البرد، وما يزال أطفالها يعيشون حالة التشتت واللجوء على تخوم بلاد تعتقد نفسها (بلاداً عربية). والموت الزؤام يحاصر هؤلاء البؤساء فيقتلهم ويمنع عنهم النظر من النافذة كما كانوا قبلاً.
ترى لو كان حنا مينا حياً، كيف سيكون حاله أمام هذا الهدير من الخوف والموت والتشرد لمواطني بلاده؟ هل كان سيقول بأن الثلج يأتي من النافذة؟ وهل سيتغنى بمراحل الكفاح ضد الاستعمار أم أذناب الاستعمار؟ وهل سيكتب محمد الماغوط مسرحية جديدة على غرار كاسك يا وطن. هل سيكتب عن الحذاء بأنه ماركة الأسد ليرد الآخر: حافظ عليها. وماذا لو كان فيكتور هوجو حياً؟ هل ستكون البؤساء أعظم رواية في تاريخ الأدب الإنساني؟ أم أنه سينتحر لرؤية البؤساء الحقيقيين الموجودين على حدود الأردن ولبنان وتركيا وفي الأرياف الشامية وفي مخيمات اللجوء بغزة وفي خزاعة وجباليا والشجاعية وغيرها. هل كانوا سيستمتعون حقاً بالثلج؟
أي واقع مرير نحياه اليوم، وأي حياة؟ فلقد تكلست قلوبنا حتى لم تعد تتألم من شدة ما منيت بسهام الحزن على البائدين والراقدين على تخوم الأوطان يحملون أقداماً مبتورة. أي حزن ينعش عيوننا بالبكاء كل صباح ومع كل زوبعة وريح سموم تنطلق لتجوب بلاد الشام.
لقد وصل الحال بالأدب أن يتجمد من هول ما تشهده الحالة العربية، فصارت الأفكار مجنونة، والأعمال الإبداعية تحاكي الخيال وهو واقع وموجود في سورية وفلسطين والعراق وغيرها من بلادنا المكلومة. ولقد تذكرت رواية (فرانشكتين في بغداد) للروائي العراقي الشاب أحمد سعداوي، التي تحاكي واقعنا المرير، حيث يقوم بطل الرواية هادي العتاك (سكان حي البتاويين وسط بغداد) بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات خلال شتاء 2005 في بغداد، ليقوم بلصق هذه الأجزاء فينتج كائناً بشرياً غريباً، سرعان ما ينهض ليقوم بعملية ثأر وانتقام واسعة من المجرمين الذي قتلوا أجزاءه التي يتكوّن منها.
ألهذه الدرجة وصل الحال بالأمة، وقد كانت يوماً خير أمة أخرجت للناس. ألهذه الدرجة وصل الحال بأمة الرحمة والحب والتسامح والخيرية؟ إننا بحاجة لمراجعات شاملة وكبيرة، وبحاجة لثورات داخلية وخارجية في كل الأصقاع، وبحاجة لنهضة فكرية وثقافية وبحاجة لصناعة التاريخ المشرِّف مجدداً من خلال تأسيس مراكز الأبحاث والدراسات والمختبرات والجامعات والمؤسسات التعليمية حتى يتوقف سيل الدم النازف بغير وجه حق.
وكم أتمنى أن يعود اللاجئ إلى دياره وقد عاد الأمن والاستقرار والهدوء بكل البقاع، تماماً كما يقول حنا مينا في خاتمة روايته الثلج يأتي من النافذة:" اغمض عينيه على هناءة الراحة بعد تعب. في مدينته سيعيش، وفي مدينته سيكتب، وفيها سيكافح. وشعر بسعادة غامرة، بسعادة من يستقبل الدنيا بصدره، وأعداءه بصدره، وأصدقاءه بصدره أيضاً، وهتف كأنه يقسم: أبدا لن أهرب بعد الآن! أبدا لن أهرب بعد الآن.