رسول الله بينَ الرحمةِ والشدّة
البراء كحيل
كانت البشريةُ تعيشُ في حضيضٍ ما بعدهُ حضيض , في ظلامٍ وقهرٍ وظلمٍ وبغي , في جهلٍ وأمّيةٍ وانحطاطٍ أخلاقيٍّ تَشْمَئِزُّ منهُ النفوسُ الكريمة , لقدْ كانتِ البشريةُ أشبهَ برجلٍ على فراشِ الموتِ أثقلتهُ الأمراضُ بعدَ حياةٍ مليئةٍ بالمفاسدِ والمُوبقات , وكأنّ العالمَ يسيرُ صوبَ حتفهِ لتنتهيَ مسيرةُ هذا الكائنِ البشريّ على وجهِ هذهِ البسيطة .
وسطَ هذا الظلامِ الحالكِ أشرقتْ شمسُ النبوّةِ لتُنيرَ للبشريةِ طريقها منْ جديدٍ وتُعيدها لجادّة الصَّوابِ بعدَ أنْ انحرفت بها عجلةُ الشهواتِ والباطلِ وكادت تكونُ المهلكة .
لقدَ كان هذا النبيّ الكريمُ بشراً بثوبِ الملائكةِ بل لقد فاقَ الملائكةَ طاعةً ومحبةً لربّهِ , اصطفاهُ خالقهُ ليكونَ المُنقذَ لهذهِ الأرضِ ممّا وقعَ فيها فربّاهُ الله على عينه واصْطَنَعَهُ لنفسِهِ فكانَ السراجَ المنيرَ الذي أوقدهُ اللهُ هدايةً للبشريةِ والنبعَ العذبَ الصافي الذي يروي عطشَ كلّ ظمآن .
ولم يكنْ لهذا النبيِّ الكريمِ أن يتحققَ له القبول وتنتشرَ دعوتهُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربها لولا أن زرعَ الله فيهِ أحاسِنَ الأخلاقِ ورفعَ عنهُ ما يُمكنُ أنْ يُدّنِسَ ثوبَ النبوّةِ الطاهرَ , فكانَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ القدوةَ والمثلَ الأخلاقيّ لكلِّ من جاءَ بعدهُ .
لقد عُرفَ هذا النبيّ الكريم بالرحمةِ والصفحِ والكرمِ والمحبّةِ والعطفِ والودِّ , بل قـُل إنّ كلّ كريمةٍ من الأخلاقِ كانت فيه فقد جمعَ مكارمَ الأخلاقِ في شخصهِ العظيم .
جاءَ في سيرتهِ الكريمةِ أنّهُ أشفقَ ورحمَ الجملَ والعصفورَ والهرّةَ بل بلغتْ رحمتهُ ومحبتهُ الجمادَ كالجبلِ والجذعِ , ناهيكَ عن رحمتهِ عليهِ السّلام بالأطفالِ والنّساءِ والعجائز .
وإنّهُ لمن الجميلِ بل الواجبِ أنْ تنشرَ بينَ النّاسِ هذهِ الرحمةَ وتُخبرهم عن مكارمِ الأخلاقِ لدى هذه النبيّ الذي قال" إنّما بُعثتُ لأتممَ صالحَ الأخلاق" وتُخبرهم كم كانَ عليه السّلامُ يغفرُ ويصفحُ ويُشفقُ على النّاس , ولكن أيضاً يجبُ أنْ يعلمَ الجميعُ أنّ رسولنا لم يكنْ راهباً في صومعتهِ عاشَ حياةً مليئةً بالعبادةِ ليس إلاَّ, بل كانَ رسولُ اللهِ يغضبُ للحقِّ ويثأرُ للمظلومِ ويشاركُ في المعاركِ الضاريةِ , بل كانَ صحابتهُ يحتمونَ بهِ في المعاركِ "كُنَّا إذا حَمي الوطيسُ (أي اشتدت المعركة) احتمينا برسول الله " وكانَ صلّى الله عليه وسلّمَ شديداً في الحقِّ لا يخافُ في الله لومةَ لائمٍ ولا يقبلُ بالمهانةِ أو أنْ يتجرأ أحدٌ على اللهِ ورسولهِ , وليسَ من طبعهِ ولا في دينهِ أنْ إذا ضربكَ أحدٌ على خدّكَ الأيمنِ أنْ تُعطيهُ خدّكَ الأيسرَ , كان صلّى الله عليه وسلّم رحيماً وشديداً وكانَ وسطاً في كلّ شيء , فكفاكم حديثاً عن إسلامٍ رومانسيٍ لا نعلمهُ ولا نعرفهُ بل نعلمُ إسلاماً لا يرضى بالضيمِ ويرحمُ الضعفاءَ ويضربُ على يدِ الظالمِ ويقتّصُ للمظلوم , إسلامنا رحيمٌ ولكن ليسَ بالضعيف , فيرحمُ وهو القويُّ ويثأرُ إذا تجرأ أحدٌ عليهِ , فالرحمةُ والصفحُ المُطلقُ أو المازوخيةُ لا تبني الأممَ ولا ترفعُ شأنها وخيرُ الأمورِ أوسطها وهذا هو جمالُ الإسلامِ فهو رحمةٌ معَ قوّةٍ وصفحٌ معَ مقدرةٍ وعدلٌ معَ تمكينٍ .
ومنْ أحسنُ منَ اللهِ حديثاً إذْ يقولُ :"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ "