الاستبداد وجوقة المطبلين
الاستبداد وجوقة المطبلين
د.أحمد محمد كنعان
يخبرنا التاريخ .. ذلك المعلِّم الكبير .. أن الحاكم المستبد لا يصنع نفسه بمقدار ما تصنعه الشعوب عندما تتخلى عن دورها وتترك مصيرها في يد الحاكم ليمارس فجوره السياسي ، ويستفرد بالحكم ويمارس سلطته المستبدة ، مستخدماً في ذلك جوقة المنافقين المصفقين المؤيدين له من سياسيين وأدباء وفنانين وإعلاميين ورجال دين ، الذين يتسابقون في تمجيده ، وتزيين أعماله ، وتضخيم خصاله ، حتى يصل به بعضهم إلى درجة التأليه .. وذلك من أجل ضمان مراكزهم عنده والمحافظة على مصالحهم الشخصية !
ومبالغة من هؤلاء في الإعراب عن ولائهم لسيدهم "المستبد" نراهم يتعاونون على إفساد الجماهير ، بشتى الوسائل المشروعة وغير المشروعة ، لضمان خضوع الجماهير وإضعاف روح المعارضة عندهم !
وأدهى من هذا أن تنضم إلى هذه "الجوقة" زمرة من رجال الدين الذين يجتهدون في تبرير كل ما يصدر عن المستبد من أفعال مهما كانت هذه الأفعال مناقضة لمبادئ الدين والأخلاق ، بل ويزيدون الطين بلة بأن يزهدوا الناس بالعمل السياسي لأنه ـ في زعمهم ـ ليس من الدين في شيء ، وفوق هذا يمنوهم ـ إن هم تجنبوا السياسة ـ بالنجاة من عذاب الله في الآخرة ، ليشغلوهم بهذا "الزهد البارد" عن العذاب الذي يصبه المستبد فوق رؤوسهم صباً ، وليبعدوهم عن مناكفته والمطالبة بحقوقهم !
ويستكمل المستبد هذه "الجوقة" النشاز ببعض الأحزاب الانتهازية فيسمح لها بالمشاركة الشكلية في الحكومة ، لكي يضفي على حكمه صبغة ديمقراطية خداعة !
وعرفاناً من المستبد بفضل هذه "الجوقة" في دعم استبداده نراه يقرّبهم إليه ، ويغدق عليهم المناصب والعطايا والأطيان والأموال ، ويطلق أيديهم لتعبث بمقدرات الشعب كما تشاء ، ويقصي بالمقابل أهل الثقة والإخلاص والفضل والحكمة والخبرة !
وهكذا تكتمل الصورة البشعة للاستبداد ، وتدخل البلاد دوامة الفساد والتخلف التي قد يحتملها الشعب لفترة من الزمن ، حتى إذا ضاقت به الأحوال ولم يعد يطيق الصبر انفجر غضبه دفعة واحدة في وجه الاستبداد !
وبما أن الشعب في هذه الحالة يكون في حالة من الضعف الشديد أمام الآلة العسكرية والأمنية الرهيبة التي هيأها المستبد لمثل هذه الأزمة فقد يستنجد الشعب بالخارج طلباً للخلاص ، وهذا ما يزيد الطين بلة ، إذ ينتهز المستبد الفرصة ويعتبر الاستعانة بالخارج بمثابة صك شهادة بوطنيته هو ، فيزيد في تعنته واستبداده وبطشه وتمسكه بمواقفه الوطنية المزعومة ، وبهذا تقع البلاد بين نارين : إما السكوت والخنوع والرضا بالاستبداد والظلم والبطش ، وإما الخضوع والارتهان للخارج .. وهما أمران أحلاهما مرُّ !