موقع الديمقراطية فينا
عقاب يحيى
هل ننجح حقيقة في تعلم وممارسة الديمقراطية؟..
هل يمكن التغلب على رواسبنا وآثارنا.. لا وتركيبتنا التي تعضّدت عند الأغلبية فمُحدث ثورة داخلنا قبل الحديث عن ثورة عامة، وقبل الخلاف على هوية الدولة التي نريد ؟؟
هل تساعدنا الظروف الخاصة، وفي التشكيلات التي ننتمي إليها، وتلك العامة، والمتحوّلة في مقاومة موروثاتنا المناقضة لها، وتلك القلقلة حمّالة الأوجه العديدة، بما فيها المتصارعة، والمتناقضة فيما بينها ؟؟..
هل بقدرة الأحزاب ـ التقليدية ـ والجديدة إحداث تحولات بنيوية في تركيبها ووعيها وحياتها الداخلية لترجمة الديمقراطية فيها، ومنها إلى العلاقة مع الآخر المختلف، وإلى تحالفات تكون هي نسغها، وخيمتها، وكيانها ؟...أم نبقى ندور في الشعارات الكبيرة التي تصطدم، غالباً ببنيتنا، وجملة العوامل المعيقة.... والواقع المخالف بتحولاته، وواقع جلّ القوى السياسية القديمة والجديدة، والمستجدّة ؟....
ليست الديمقراطية حالة قسرية تجبرنا على الحديث فيها، واختيارها مسارات وحصائل الفشل السابق، أو الضغوط متعددة الاتجاهات والمصادر وحسب. يل المفروض أن تكون إيماناً محمّلاَ بالوعي التفصيلي لجوهرها وموقعها، وأن تصبح التجسيد على صعيد الذات، ومع الزوجة، والبنت، والأخت والعائلة، والمحيط، وفي الأحزاب والقوى التي ننتمي إليها.. وتتويجها في قبول الرأي الآخر، مهما كانت طبيعته، ومهما كانت المسافة كبيرة، وبعيدة بيننا وبينهوفي تقديم إسهام غني نابع من واقعنا وطبيعة مجتمعنا ...
ـ نعم أجّبرت معظمنا تجارب الفوات، والأحادية وما ألحقته من دمار فينا، وفي مجتمعاتنا، وما عجزت عن تحقيقه من أبسط شعاراتها.. على البحث عن مخارج بديلة...وحين علا موج اليسار والماركسية، واكتسح سطوح المجتمعات العربية، خاصة بعد هزيمة حزيران ومفرزاتها، ودروسها.. اتجهت معظم الأحزاب السياسية الموصوفة بالوطنية والقومية، أو بالبرجوازية الصغيرة نحوها.. متصوّرة أنها وجدت الحل والمدخل والمخرج، وباب فتح الانسداد، وحتى الهروب إلى الأمام، فانهمر الحديث فيها، وتبنيها.. بما في ذلك تلك الصراعات متعددة الأشكال داخل التنظيمات، ومع الآخرين.. وظلّت أرجحة الخصوصية والتمايز تشدّ نحو تلك الحالة من العنعنة، والتردد، والاختلاط المعجون بنوع من تجريبية جديدة تأمل بتشكيل خليطة قديمة ـ جديدة تحت شعارات التعريب، والمحافظة على الثوابت التي فرّخت، من جديد، أزمات جديدة ....
ـ غربت شمس الماركسية بتضافر عوامل متشابكة، قادت إلى ذلك السقوط الشامل للاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وعاشت عديد تلك القوى الشيوعية منها والجديدة التي التزمتها حالة اختناق أقرب للموت السريري، أو الانتحار المكابر.. بينما كانت الديمقراطية تطلّ برأسها، وكامل بنيانها : حلاً، ومخرجاً.. فأقبلت عليه النخب، ومعها معظم تلك الأحزاب التقليدية، وتشكيلات جديدة ترفع شعاراتها بحماس ملفت، وتدخل بواباتها من مداخل مختلفة، غالباً ما كانت تقليدية، وقسرية، وضيّقة...ثم اتساع عباءة الانتشار درجة لفّت الجميع : إسلاميين وقوميين ويساريين. أحاديين، وأنصافهم، وحتى الاستبداديين المكينين رفعوا عقيرتهم تحت يافطاتها ...
ـ ولا شك : واقعياً، ومنطقياً، وتوثيقياً، ان فصائل المعارضة السورية وهي تخوض تلك المجابهات متعددة الأشكال مع نظام أحادي، فئوي، استثناء..قد اختارت التعددية بديلاً لا خيار عنه، ومن تلك الأرضية راحت تفصح عن أفكارها الجديدة.. التي بدأت اختلاطية، ثم أخذت تتضح، وتتبلور أكثر فأكثر، وكان ميثاق" التجمع الوطني الديمقراطي" الذي صدر أواخر العام 1979 بين خمسة من القوى المعارضة نقلة مهمة، رغم وجود التباينات في حدود المسألة الديمقراطية بين أطرافه، واختلاط تلك المفاهيم الجديدة مع بقايا فلسفة الحزب الواحد، القائد، والتخطيط الشمولي، وحرق المراحل.. إلخ.. وكان على هؤلاء خوض المزيد من المعارك مع أنفسهم، وداخلهم لإنجاز تحولات مهمة تصبح فيها الديمقراطية خياراً استراتيجياً، ونهجاً، وحياة، وليست جسور عبور، أو رايات للتكتيك والغشّ ...
***
يمكن القول أن تطوراً ملحوظاً عرفته جموع قوى المعارضة على صعيد تبنيها للحرية نهجاً وطريقاً وخياراً وحيدا، والتأكيد على الدولة الديمقراطية، التعددية بديلاً... وهذا مهم، لكن ذلك لا يكفي، لأن عقبات كبيرة تحول دون التجسيد، وتظهر جلية في بنية تلك القوى، وفي حياتها الداخلية، وعمق التأصل الديمقراطي وسويات وعيه، وفي التعاطي مع الآخر، وعند المنعطفات، وفي الخيارات الحادّة التي تفرض نفسها بقوة لا تترك المجال للمناورة، والباطنية، واللفّ والدوران..
عديد القوى، والقيادات : على صعيد الوعي المدقق، أو الممارسة تعاني تلك اللوثات والاختلاطات الناجمة عن البنى القديمة ومفاعيلها، وعن ضمور مستوى تطور المجتمع في هذا الميدان، والذي كان مقسوراً، ومحروماً من وعي وممارسة أبسط صور الديمقراطية، ثم عبر ما عرفته الثورة السورية من تحولات، خاصة بعد سيطرة ظاهرة التسلح على العمل السياسي، والمدني، وتغوّل التطرف وقواه، وما شهدته بلادنا، والمنطقة من انزياحات خطيرة باتجاه موضعة الصراعات المذهبية، والإثنية : إطاراً، وبديلاً .. وحالة ردّ الفعل التي باتت تسم عديد الأوساط التي كانت أقرب إلى أهداف الثورة وهي تبلور موجزاتها في الحرية والكرامة والعدالة .
ـ وعبر واقع اختلاطي، متحوّل.. عرفت الثورة السورية تلك التبدّلات الإجبارية، والنتائجية، فأحدثت مجالات جديدة للتراجع والخلاف . التراجع عن أهداف الثورة بطرح افكار إسلامية وإسلاموية يذهب بعضها حدّ تكفير الديمقراطية، وطرح الدولة الإسلامية كنقيض، ثم تقلّب"مزاج" ومواقف بعض القوى السياسية من خلال مقولة تبدو في ظاهرها تكتيكية، وعابرة، لكنها تؤسس لفكر بديل، والتي تلخص نفسها بالقول : أن الهدف الرئيس للمرحلة هو إسقاط النظام بأي طريقة ووسيلة، وأن ذلك يمكن أن يجعلنا نغمض العين عن الأطروحات المعارضة للديمقراطية، أو التحالف مع أصحابها انتظاراً لما بعد، بينما كانت مثل هذه الموجة تأخذ معها عديد النشطاء والقوى، وتسحبهم بقوة التحدّيات في الميدان، وردود الفعل العنيفة، وما يشبه الانسداد في تحقيق الهدف ضمن أفق منظور، او بالوسائل السلمية والديمقراطية..ولذلك تراجع كثيراً ذلك الإلحاح، والاتفاق حول هوية الثورة الديمقراطية، التعددية، وانهمك العديد في المعارك العسكرية، وما عرفته الميادين من أوضاع صعبة ..
ـ حين العودة إلى أسئلتنا الأولى، وانطلاقاً من الذات، ومكاشفة لها، واعترافاً بحاجتنا إلى تعلم الديمقراطية ووعيها، وإلى الشجاعة في ممارستها... يجب أن نقر، وأنا أولهم، أنه ينقصنا الكثير من الإيمان والوعي والفعل والتجسيد، وأن علينا : كباراً في العمر والتجربة، او جموع الناشطين والشباب تكريس التواضع مدخلاً للاعتراف والتطور، والتعلّم والتمثّل.. وأن نعمل جميعا، ومن خلال التجربة والحوار على جعل الديمقراطية نمط حياة وتفكير غير قابل للمساومة والتكتيك، مع التأكيد على موقع النظام التعددي، والدولة المدنية في مستقبل بلادنا، والتي لا تتعارض وحقوق الجميع في ممارسة عقائدهم، وتجسيد المساواة في المواطنية بكل الحقوق والواجبات..