حلب ودمشق وحسم الثورة السورية
حسام مقلد *
من المفارقات الغريبة في الثورة السورية المجيدة والتي لا يفهم الكثيرون دوافعها وأسبابها الخفية على وجه الدقة ـ موقف أهل حلب ودمشق من مسيرة هذه الثورة المباركة التي تنشد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية لكل أبناء الشعب السوري الأبي؛ فغريب أن يظل أبناء هاتين المدينتين العظيمتين على هذه الحال من السلبية والتردد في المشاركة بقوة وفاعلية في أحداث هذه الثورة الشعبية العاطرة التي تتمتع منذ بدايتها بأنصع وأنقى أفعال الحدث الثوري، خاصة ونحن قد شاهدنا ونشاهد مرارا وتكرارا شباب ورجال وشيوخ الثورة وهم يؤكدون على سلميتها وعفويتها وشمولها وطهرها الثوري وبعدها عن العنصرية والطائفية والمذهبية، وأنها تنشد الخير والحق والعدالة والحرية والمساواة والكرامة لجميع السوريين بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والطائفية والدينية!!
في الحقيقة لقد سألت بعض الأصدقاء السوريين من حلب ودمشق وغيرها من المدن عن سر تردد أهل هاتين المدينتين وإحجامهم عن المشاركة بقوة وفاعلية في الثورة السورية ودعم مسيرتها بإعطائها ما تستحقه من زخم واهتمام، وقد تفاوتت الإجابات والتفسيرات على النحو التالي:
1. يرى البعض أن نظام بشار الأسد يرتبط مع أغلب أعيان حلب ودمشق بشبكة متينة من العلاقات والمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية يصعب عليهم التفريط فيها بسهولة في مقابل مغامرة غير معروفة العواقب...!!
2. يقول آخرون إن أهل حلب ودمشق قد لحقوا بالثورة فعليا منذ انطلاق شرارتها الأولى، وأنهم يشاركون فيها يوميا، لكن الشوارع الضيقة وطبيعة التخطيط العمراني لهاتين المدينتين، وعدم وجود ميادين فسيحة فيهما على غرار (ميدان التحرير) الشهير وسط القاهرة هو السبب الرئيس في عدم خروج المظاهرات الضخمة في قلب المدينتين الأكبر في سوريا.
3. وذهب فريق ثالث إلى أن نظام الأسد يُحْكِم قبضته الشرسة على سكان حلب ودمشق باعتبار أن هاتين المدينتين هما مركز ثقله وهما الركيزتان الأساسيتان للنظام اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وتراجعه فيهما أو خسارته لهما تعني سقوطه نهائيا؛ ومن ثمَّ فهو شديد الحرص على إحكام قبضته عليهما بكل قوته، الأمر الذي يصعب على سكانهما الخروج في مسيرات ومظاهرات ضخمة.
4. أما الفريق الرابع فقد فسر الأمر صراحة بأن حاجز الخوف لم يكسر بعدُ في نفوس أهل حلب ودمشق، وأن جبروت النظام وبشاعة ما يرتكبه يومياً من مذابح مروعة ومجازر وحشية يندى لها جبين الإنسانية تمثل عائقاً نفسياً كبيراً يحول دون المشاركة الفعَّالة في مسيرات الثورة.
5. وأخيرا قدم الفريق الخامس تصوراً موضوعياً جداً للأمر إذ رأى أن فشل المعارضة السورية حتى الآن في جمع صفوفها وتوحيد رايتها، وإيجاد تصور واضح وخارطة طريق محددة لسوريا في مرحلة ما بعد بشار الأسد هو السبب الأول في إحجام أهل حلب ودمشق عن المشاركة في الثورة؛ فالبديل غير واضح، والأمر ملتبس وأبواب الاحتمالات الخطيرة مفتوحة على مصاريعها...!!
قد يكون بعض هذه التفسيرات أدق من غيره في توضيح موقف سكان حلب ودمشق من الثورة، وربما كانت كلها صحيحة ومقبولة، لكن السؤال الأهم الآن هو: ما أهمية مشاركة أهل حلب ودمشق في الثورة السورية ما دامت هذه الثورة مشتعلة منذ نحو عام في بقية المدن الأخرى: كحمص وحماة ودرعا ودير الزور والبوكمال وإدلب واللاذقية، وريف دمشق... وغيرها؟! بعبارة أخرى: هل حلب ودمشق ستحدثان فارقاً كبيراً في مسار الثورة السورية إن قرر أهلهما المشاركة فيها بقوة وفاعلية والضغط بكل ثقلهم على النظام لتنحيته وإزالته؟!
قبل الإجابة على هذا التساؤل ينبغي أن ندرك الحقائق الميدانية جيدا على الأرض، ونقيِّم بواقعية وموضوعية مجمل المواقف السياسية: سوريا (النظام، والثوار، والمجلس الوطني...) وعربيا وإقليميا ودوليا!! وبنظرة متأنية سندرك شدة تعقيد الوضع، وحساسية وخطورة المرحلة التي تمر بها الثورة السورية:
· دوليا: الأزمة السورية في سبيلها للدخول في حالة من الشلل السياسي على مستوى مجلس الأمن بسبب الفيتو الروسي الصيني، ولا ينتظر أن يتغير ذلك الوضع قريباً، فروسيا قد ألقت بكل ثقلها خلف نظام بشار الأسد باعتباره ورقتها الأخيرة في الشرق الأوسط، ولن تتخلى عنه بسهولة أو بلا مقابل سخي (ولا يوجد حتى الآن من هم على استعداد لتحمل نفقة وتكاليف الموقف الروسي، خاصة وأن المقابل المطلوب دسم وضخم جدا هذه المرة!!).
· عربيا: استنفدت الجامعة العربية مرات الرسوب وليس بمقدورها فعل أي شيء ذي بال ـ لا في سوريا ولا في غيرها...!! ـ والدول العربية كلٌّ مشغول بنفسه، والشعوب العربية ذاهلة في همومها الخاصة... وإن كانت جميعها تقف عن بكرة أبيها داعمة ومؤيدة للشعب السوري البطل!!
· إسلاميا: منظمة المؤتمر الإسلامي خارج الخدمة لحين إشعار آخر...!!
· إقليميا: المنطقة مقبلة على مخطط غامض، والوضع قلق وغير مطمئن لاسيما في ظل التلوينات الطائفية والصراعات المذهبية والدينية والعرقية والقومية المكتومة...!!
· جوار سوريا: الدول التي من الممكن أن تقيم مناطق عازلة لحماية الثوار السوريين (كالأردن وتركيا...) لم تحسم خياراتها بعد، ومواقفها رهينة بالوضع الإقليمي والعالمي، ولا تزال تراقب وترصد وتبحث دون أن تقرر شيئا عمليا يخدم الشعب السوري على الأرض!!
· داخليا: الشعب السوري هو وحده القادر ـ بعون الله تعالى ـ على: حسم قضيته، وإنجاز ثورته، وإسقاط نظام بشار الأسد، وكل المطلوب منه لتحقيق غايته وإكمال هدفه:
1. استمرار المسيرات والمظاهرات السلمية وتكثيفها خلال الفترة المقبلة في كافة المدن السورية.
2. توحيد قوى المعارضة، وجمع صفوفها في المجلس الوطني الانتقالي؛ حتى يحظى باعتراف رسمي كامل من مختلف دول العالم، ويُعهد إليه (بالتوافق مع كافة الأطراف) تنفيذ خارطة الطريق وإدارة المرحلة الانتقالية!!
3. دعم الجيش الحر بكل الوسائل الممكنة، والضغط بكل الطرق السياسية والشعبية: إقليمياً وعربياً ودوليا لتوفير مناطق عازلة تتمركز فيها قوات هذا الجيش، وتسلح بما يساعدها على إنجاز مهمتها المحددة خلال المرحلة القادمة.
إن أي نظام مهما كانت قوته لن يستطيع المقاومة طويلا بلا أرضية شعبية تسانده، ودون مجموعة من الركائز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تدعمه وتقف إلى جواره، وكما يعلم الجميع فإن حلب ودمشق هما مركز ثقل نظام بشار الأسد، وكلما استمرت الأوضاع هادئة في هاتين المدينتين واستمر خضوعهما لسيطرة النظام كلما اعتبر نفسه نظاماً مستقراً ومدعوماً من غالبية أبناء شعبه، وكلما أمكنه الزعم بأنه يتعرض لمؤامرة عربية ودولية لإسقاطه...!! لكن لو خرج أبناء حلب ودمشق في مسيرات مليونية سلمية مطالبين بسقوط النظام فستتغير فورا كل مكوِّنات المعادلة، ومن الطبيعي أن تسقط أعداد من الضحايا، وهذه هي ضريبة الحرية والكرامة، وليس من العدل ألا يشارك السوريون جميعا في دفعها وتحمل كلفتها!
نخلص من ذلك كله إلى حقيقة غاية في الأهمية مفادها أنه بإمكان أهل حلب ودمشق تسريع سقوط نظام الأسد من خلال الوقوف بوضوح في صف الثورة والثوار، والنزول بأعداد غفيرة وكثافة مرتفعة إلى كافة الميادين والشوارع في هاتين المدينتين مطالبين بإسقاط النظام، فهذا من شأنه تعرية بشار الأسد وفضح دعواه بأن غالبية الشعب السوري تؤيده!!
في الواقع لو أراد أهل حلب ودمشق حقن دماء إخوانهم من أبناء الشعب السوري البطل، وحفظ أرواحهم، وتجنيب سورية الحبيبة المزيد من الدمار والآلام والصراعات والفتن، وحسم الأمور في أسرع وقت ممكن (وبهذا القدر فقط من الخسائر التي وقعت حتى الآن...!!) فبإمكانهم فعل ذلك إن هم تغلبوا على مخاوفهم وتجردوا من تفكيرهم الذاتي في مصالحهم فقط، وانحازوا جِديًّا للثورة، ونزلوا إلى الشوارع بمئات الآلاف، وشاركوا بكل قوتهم في تطهير سوريا من هذا النظام الوحشي المستبد واستئصاله تماما من الحياة السياسية ...!!
فيا أهل حلب ودمشق الكرة في ملعبكم الآن، وأنظار الناس في جميع أنحاء العالم تتطلع إليكم ، فهل تنصرون أبناء شعبكم وتنهون المهمة سريعا أم يقهر الخوف إرادتكم فتلوذون بالصمت!!
* كاتب إسلامي مصري