لهذا دمر الأسد حماة

في الذكرى الثلاثين لمأساة العصر

د. هشام الشامي

في الثامن من آذار / مارس من عام 1982م خطب الرفيق الفريق أول حافظ الأسد قائلاً : " ما حدث في حماة حدث و انتهى ". هكذا لخص القائد التاريخي الملهم ( حسب رأي عبيد الأسد ) شهراً كاملاً من المعارك (الوطنية و القومية) لجيش الأسد العقائدي؟؟!! ، الذي أعطي صلاحيات كاملة لانتهاك حرمات و حقوق و حريات و حياة  مدنيين عزل ، فارتكب المذابح الجماعية الرهيبة ، و الإبادة السادية الشاملة ، و القصف الجوي و المدفعي و الصاروخي ، و استباح المحرمات و انتهك أعراض الحرائر ، و قتل الشيوخ و النساء و الأطفال ، و مثل بالموتى ، و بقر بطون الحوامل ، و أباد عائلات بكاملها ،و دهس المرضى و الجرحى بالدبابات و المجنزرات ، و دفن المئات في قبور جماعية ، وسرق و نهب المحلات التجارية والمجوهرات والأموال والممتلكات، و فجر مساجد المدينة وكنائسها، وسرق البنوك و المتاحف والمقتنيات الأثرية ، و بتر أطراف السيدات و قطع الأذنين من أجل أخذ المصوغات الذهبية ، و دمر أحياء على رؤوس قاطنيها ، و غير معالم مدينة من أقدم مدن التاريخ ، على يد سرايا الدفاع بقيادة العقيد رفعت الأسد و علي ديب و سرايا الصراع بقيادة عدنان الأسد و الوحدات الخاصة بقيادة علي حيدر و الفرقة العسكرية الثالثة بقيادة شفيق فياض واللواء (47)مدرعات بقيادة العقيد نديم عباس، واللواء (21) دبابات بقيادة العقيد فؤاد إسماعيل ، والفوج (41) إنزال جوي، والفوج (114) مدفعية ميدان وراجمات صواريخ ، وعشرات الطائرات المروحية ، و قوات المخابرات العسكرية بقيادة يحيى زيدان و أمن الدولة بقيادة موفق الزعبي و محمد رأفت ناصيف و الأمن السياسي بقيادة وليد أباظة ، و قوات المرتزقة الخاصة ، و شبيحة النظام الطائفيين ‘ و الكتائب الحزبية المسلحة ، كل هذا الجيش الكبير العرمرم من المرضى الساديين و الطائفيين الحاقدين الموتورين و بأوامر مباشرة و متابعة لحظية من الرفيق الرئيس و شقيقه،استباحوا مدينة حماة الآمنة على مدى شهر شباط كاملاً ، في أفظع مذبحة و أبشع مأساة عرفها العصر الحديث ، فقتلوا خلال أقل من شهر أكثر من 40 ألفاً ، و اعتقلوا و شردوا أضعافهم ، و تركوا المدينة مدينة أنقاض و أشباح ، و هم يفاخرون بنصر كبير حققوه على مدنيين مسالمين ، و مواطنين أبرياء ، يفترض أنهم  سُلّحوا من أموالهم و عرق جبينهم لحمايتهم من العدو الخارجي ،و تأمين أمنهم و سلامتهم ، بعد أن تركوا جبهة الجولان المحتل ساكنة سكون المقابر وأفضل جبهة آمنة حسب وصف قادة الصهاينة أنفسهم 0

لقد أراد الأسد الأب من هذه المجزرة الشنيعة التي دمرت أكثر من ثلثي المدينة دفن تطلعات الشعب السوري كله في الحرية و العدالة و المساواة تحت أنقاض مدينة أبي الفداء إلى الأبد ليبني فوقها حلمه في مملكة الخوف و الصمت و الرعب و الإرهاب

ونحن إذ نحيي الذكرى المؤلمة الثلاثين لهذه المجزرة الرهيبة ، و الذي يوافق يوم الخميس القادم الثاني من شباط فبراير و الذي يوافق بدء هذه الحملة الشرسة بعد حصار طويل للمدينة أمتد من دخول الجيش إليها في نيسان إبريل من عام 1980م و تحويلها إلى سجن كبير و ارتكابه عدة مجازر صغيرة ( مقارنة مع هذه المجزرة الكبيرة ) كمجزرة حي البرازية و الفراية و باب البلد في منطقة السوق ، و مجازر البارودية و جسر الهوى قي الحاضر في نيسان أبريل 1980 إضافة إلى إذلال أهل المدينة و إجبارهم على السجود لصور حافظ و رفعت و اعتقال و قتل  رموز المدينة  و التمثيل برجالاتها و تعذيب أحياء حتى الموت في قرى محيطة بحماة لإذكاء و شحن النزعة الطائفية  المقيتة  كما فعل بالدكتور عمر شيشكلي ( 45 سنة ) رئيس جمعية أطباء العيون في سوريا و الذي فقئت عيناه حياُ، و خضر شيشكلي ( 80 سنة ) أحد رجالات الكتلة الوطنية ، و زعيم بيت الأمة  أيام الجهاد ضد المستعمر الفرنسي و الذي حرقوه حياً أمام أبنائه بصب الحموض العضوية ( الأسيد )عليه ثم نهبوا بيته المليء بالتحف و المقتنيات الأثرية ، و الدكتور عيد القادر قندقجي أخصائي العظام و صاحب مستشفى القندفجي في منطقة طريق محردة و الذي مثلوا بجثته و رموه  على طريق الشيخ غضبان على بعد 30 كم من حماة ، أما زوجته الألمانية فقد أصيبت بالجنون عند رؤيته ميتاً وقد مثل بجثته و شوهدت مرات عديدة بعدها و هي تقول بلكنتها الغربية : سوريا ما في ديموكراتي ( أي ديمقراطية ) ، و أحمد قصباشي ( 55 عاماُ ) الذي قلعوا أظافره و بتروا بعض أصابعه قبل أن يقتلوه حقداً و لؤماُ .

و لن ندخل في تفاصيل المجزرة الكبرى المروعة و التي أصبحت معروفة للداني و القاصي؛ و التي هي في الحقيقة مجموعة مجازر مفجعة ؛ ففي كل حي من أحياء المدينة المستباحة حدثت مجازر جماعية عديدة ، و بإمكان القارئ أن يراجع ما أصدرته لجان حقوق الإنسان السورية و العربية و العالمية عن هذه المجزرة الفظيعة ؛ و من ذلك ما نشرته عن هذه المجزرة قبل ستة أعوام اللجنة السورية لحقوق الإنسان و الموجود على موقعها و على مواقع المعارضة السورية الأخرى تحت عنوان : ( مجزرة حماة : شباط / فبراير 1982 جريمة إبادة جماعية و جريمة ضد الإنسانية ) 0

لكنني أشهد أنني عاينت بنفسي بعض آثار المجزرة ، و قابلت بعضاً ممن شهدها من أبناء هذه المدينة المنكوبة ، و منهم من كان قد هرب من جحيم المجزرة و لجأ إلى القرى و المدن المجاورة ، و كان أكثر ما يؤلمهم حقاً أنهم تفرقوا عن أزواجهم و أبنائهم و إخوانهم و أهليهم و لا يعرفون أين هم الآن ؟ ، و من بقي منهم على قيد الحياة ، و من دفن تحت الأنقاض ، أو في مقابر الحقد الجماعية ؟؛ حيث كانت المدينة محاصرة من جميع الجهات و قطعت عنها الاتصالات الهاتفية 0 و شاهدت أحياء كبيرة قد دمرت بالكامل ، و قرأت الحزن و الصمت و القهر و الكآبة في وجوه النساء و الأطفال و الشيوخ ، و شعرت أنني أعاين مدينة أشباح ، و تأثرت تأثراً بليغاً 0 و خلصت يومها أن حماة لم تكن هي وحدها المقصودة لذاتها من هذه الجريمة المنكرة ، بل كل مدن و قرى سوريا بحريتها و كرامتها و عزتها و ماضيها و مستقبلها ، كان القصد البعيد و الهدف الحقيقي هو إسكات كل صوت حر شريف في وطني الأسير.

و كنت قد تساءلت قبل خمس سنوات – أي بعد ربع قرن من المجزرة  التساؤلات المشروعة التالية :

- لماذا يصر النظام في سورية على دفن رأسه في الرمال كالنعام ؟ 0 و لا يريد أن يفتح و يحاسب و يعالج تلك المأساة الإنسانية التي لم تندمل جروحها المتقيحة ، هل يظن أن الصمت و الهروب يجعل الناس تنسى مع مرور الأيام ؟ ، هل تستطيع الأم أن تنسى أبناءها ؟ ، هل يمكن للزوجة أن تنسى زوجها ؟ ، هل ينسى الطفل الذي أصبح رجلاً أن هناك من قتل أبويه و تركه يعيش في الحياة وحيداً يتيماً ؟ ، هل تنسى العائلات كم فقدت من فلذات أكبادها و خيرة شبابها ؟ و كم انتهكت من حرمات ؟ و كم عانت من ويلات ؟ ، هل يتعظ هذا النظام من التاريخ ؟ أم أنه لا يرى ما يجري و يُدمي القلوب في الجار القريب العراق ؟ 000

- لا بد من المصالحة الوطنية ، و لا يفيد تكرار المعزوفة البعثية الخالدة صباح مساء عن الوحدة الوطنية و الحرية و المساواة و العدالة التي ينعم بها شعبنا المقهور في سورية !!000 ، يجب أن يعرف رأس النظام أنه بسكوته و عدم إنهاء و إغلاق الملفات الدموية التي ميّزت و وسمت عهد أبيه ؛ و استمراره على نفس النهج في كبت الحريات و تكميم الأفواه يجعل كل ما حصل في عهد أبيه يجيّر لحسابه و يكتب في صحيفته و يتحمل مسؤوليته كاملة ، أما إذا وقف وقفة رجل مع نفسه كما فعل ملك المغرب مع جميع من ظُلم في عهد أبيه الحسن ؛ و كذلك ما فعل ملك البحرين ؛ فأن شعبنا الطيب سيبدل سيئات أبيه حسنات تسجل في صحيفته ، و سيكون بذلك قد وضع قدمه فعلاً في أول طريق الوحدة الوطنية و الزعامة الحقيقية ، أقول هذا الكلام – و الذي كررته كثيراً من قبل و منذ آلت السلطة لطبيب العيون بشار قبل سبع سنين - رغم أن رأي أكثر أبناء شعبنا أن الوقت بات متأخراً ، و لو أراد الرئيس أن يفعل شيئاً لشعبه و وطنه لكان فعله خلال السنوات السبع التي انقضت من حكمه ، و التي تعادل تقريباً دورتين كاملتين لرئيس أكبر دولة في العالم – و هي الولايات المتحدة – و هي أطول فترة يحلم الرئيس هناك أن يحكم بها أمريكا ( ثماني سنوات ) 0

- هل الشعب السوري أقرب إلى النظام الحاكم في دمشق أم الأعداء الصهاينة الحاقدين ؟ ، لماذا يتهافت المسؤولون السوريون على تقبيل أقدام و أيادي الصهاينة و الأمريكان ؟، و يرسلون لهم الرسائل الصريحة المتتالية و بكل اللغات التي يفهمونها؛ و يرجونهم أن يجربوهم ليثبتوا لهم طيب النوايا و حسن الجوار؛ و يقدمون لهم كل التنازلات التي لم يكونوا يحلمون بها ؛ بينما يرفضون الاعتراف لشعبهم بحقوقهم المشروعة في الحياة الكريمة بدون قوانين طوارئ ؛ و بدون حزب قائد ؛ و بدون فروع أمن و مخابرات تلاحق حتى أحلام المواطنين و آمالهم ، و بدون سجون و معتقلات و بدون تمييز و نظرة شوفينية و تفرقة طائفية عنصرية 0 و الله إنهم لن يأخذوا من الصهاينة و الأمريكان إلا الوعود الكاذبة و السراب ، أما شعوبهم إذا ما أعادوا لها كرامتها و حريتها فسيحمونهم بأرواحهم و يفدونهم بدمائهم فعلاً لا قولاً ؛ و لا يغرّنّهم صريخ هتيفتهم و منافقيهم و أبواقهم الكاذبة الذين ستنفضون عنهم كما انفضت بطانة صدام عنه مع أول رصاصة وجهت إليه ؛ و سوف يبيعونهم كما باع الأسخريوطي المسيح قبل صياح الديك 0 و يومها لن ينفعهم نعيب غربانهم و لا نعيق بومهم 0

ما كل من مدحوا الشجاعة أقدموا** فأشد أسلحة الجبان كلام0

إذا لم نتعظ من التاريخ و مما يجري حولنا فنحن أغبى الناس ؛ و لن يكون مستقبل وطننا كما نريد له أن يكون 0

إننا إذ نستذكر مجزرة حماة بعد ربع قرن من ذكراها المؤلمة لا لنجتر التاريخ و لكن لأننا نحلم بسوريا قوية متماسكة معافاة سليمة من العقد التاريخية و القهر المطبق و الإذلال اليومي و الأمراض المستعصية المزمنة ، فهل يتحقق هذا الحلم الجميل ؟؟!!...

و اليوم و بعد ثلاثة عقود من هذه المجزرة الشنيعة و لم يزل جزاروها من دون حساب ، نريد أن نجيب عن السؤال الذي يطرحه البعض  : لماذا اختيرت مدينة حماة  لهذه المجزرة المريعة ، هل اعتصام بضع عشرات من المسلحين– حسب تصريحات أبواق النظام تبرر تدمير هذه المدينة فوق ساكنيها؟؟!!

و حنى نفهم ما حصل نعود لنستذكر بعضاً من تاريخ هذه المدينة الحديث  ( و هي الضاربة في جذور التاريخ من العصر البنوليني أي العصر الحجري الحديث قبل خمسة آلاف سنة من ولادة المسيح عبيه السلام كما اكتشفت بعثة الآثار الدنمركية ) 

يقول أكرم الحوراني - أحد شهود العيان من أبناء مدينة حماة و أحد مؤسسي حزب البعث العربي الاشتراكي فيما بعد ( أسسه مع ميشيل عفلق و صلاح بيطار عندما كانوا في منفاهم في لبنان أيام حكم العقيد أديب الشيشكلي )– في مذكراته :

في صباح 30 نيسان/إبريل 1945 هوجمت مدينة حماة بالطائرات الفرنسية التي استمرت تلقي قنابلها ومتفجراتها الثقيلة على البيوت أكثر من عشر دقائق ، فأسقط المجاهدون ببنادقهم طائرتين ، وجروا حطام إحداهما من قرية معرين إلى قلب المدينة بعد انتهاء المعركة .

وتبع ذلك وصول حملة عسكرية ضخمة قدمت من حمص تضم عدداً من الدبابات والمصفحات وأربعاً وعشرين سيارة كبيرة مشحونة بالجنود ، ومدفعين من العيار الثقيل ، وكان يقودها الكومندان ( سيبس ) جاءت من جنوب حماة فجوبهت بمقاومة شديدة من مجاهدي تل الشهداء – عين اللوزة - ، فارتدت واتجهت غرباً تريد الوصول إلى الثكنة باختراق جبهة كرم الحوراني - اسم حي غرب جنوب حماة -، وفي الوقت ذاته خرجت فرق الخيالة من الثكنة لنجدتها ، فكانت المعركة الضاربة الباسلة التي استمرت من السابعة صباحاً وحتى الثامنة مساء بين المجاهدين ببنادقهم القديمة وبين قوات نظامية بأحدث الأسلحة والعتاد ، في أرض مكشوفة لا تصلح لحرب العصابات ، وعلى الرغم من وصول سلاح الطيران الفرنسي وقصف المدينة قصفاً كثيفاً أدى لتهديم مئة وعشرين منزلاً ، مع ذلك صمدت المدينة واندحرت الحملة المدرعة وقتل قائدها ( سيبس) وبعض معاونية من ضباط المدفعية ، وبقيت مئات الجثث في أرض المعركة ، وأسقط المجاهدون طائرة وعطبوا أخرى سقطت في قرية حربنفسه، وغنم المجاهدون سيارتين وعدة رشاشات وسيارة كبيرة مشحونة بقنابل المدفعية ، وعطلوا دبابتين وعدداً من المصفحات ، ومدفعاً من عيار (270) بوصة ومدفعين عيار (75) ملم ، وسحبوا كل هذه الغنائم إلى ساحة العاصي وسط المدينة .

وصمم المجاهدون بعد وصول راكان المرشد ( شيخ عشيرة) مع رجال عشيرته ، صمموا على دخول الثكنة الشرفة الحصينة ( شمال غرب حماة ) ، وفيما هم يعدون العدة لدخولها وصلت طلائع الجيش البريطاني التي أنقذت الجيش الفرنسي من أهالي حماة ، وكانت مهمة البريطانيين فرض وقف القتال ، وكان ذلك يوم 1حزيران/مايو1945 .

و يؤكد هذا الكلام ما قاله الجنرال البريطاني ( باجيت ) القائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط في مذكراته عن تلك الفترة، و كان الجيش البريطاني قد تدخل ليفصل بين الثوار السوريين والجيش الفرنسي ، يقول الجنرال (باجيت ) : لقد أنقذنا الأهالي في سوريا من الجيش الفرنسي عام 1945 ، إلا في مدينة حماة فقد أنقذنا الجيش الفرنسي من الأهالي !!! .

و كان مجاهدي حماة في طليعة الثوار الذين أعلنوا الثورة على الفرنسيين أثناء الثورة السورية الكبرى عام 1925م التي عمت القطر من الشمال و ثورة إبراهيم هنانو ، إلى دمشق و ثورة الغوطة ، إلى جبل العرب و ثورة سلطان باشا الأطرش ، إلى جبال العلويين و ثورة الشيخ صالح العلي ، و قد قاد الثورة في حماة فوزي القاوقجي و سعيد العاص و مصطفى عاشور و عثمان الحوراني و آخرون .

كما شارك رجال حماة في الكتلة الوطنية منذ تأسيسها ، و كان من أبرز رموزها من أبناء تلك المدينة المجاهدة توفيق الشيشكلي و حسني البرازي ، و الدكتور صالح قنباز و كان لهذه الكتلة دوراً بارزاً في عملية المقاومة و التحرير من الاستعمار الفرنسي . لينشد شاعر العاصي بدر الدين الحامد في ذكرى الجلاء مخاطباُ الشهيد يوسف العظمة :

((يا راقداُ في روابي ميسلون أفق++ جلت فرنسا و ما في الدار هضام

ذكرى الجلاء هو الدنيا و زهوتها++ لنا ابتهاج و للطاغين إرغام ))

كما استنفرت حماة برجالها أثناء حرب 1948م مع الصهاينة ، فمنهم من دخل مع قوات النقيب أديب الشيشكلي في لواء اليرموك الثاني النظامي، و منهم من تطوع مع القوات الشعبية التي قادها الدكتور مصطفى السباعي ، حتى باتت المدينة شبه خالية من الرجال أثناء تلك الحرب ، و قد خاض هذان الفصيلان معارك شجاعة ، و حققوا فيها انتصارات حقيقية ، جعلت اسم الشيشكلي و السباعي على لسان كل فرد في الوطن السوري الحبيب .

و قد بقيت هذه المدينة قبل و بعد الاستقلال مثال الوطنية و التسامح و التآلف ، حيث عاش فيها المسلمون و المسيحيون جنباً إلى جنب ، و كنت لا تستطيع التمييز بينهما لتشابه عاداتهم و ملابسهم ، حتى النساء المسيحيات كن يتحجبن في هذه المدينة المحافظة، و كان أبناء الريف و البادية يفضلون التعامل مع أبناء هذه المدينة المسامحين ، مما جعلها أشهر المدن السورية بالمنتجات الحيوانية و الزراعية ، فأصبح السوريون جميعاً يرغّبون بأجبانهم و ألبانهم ، فيقولون جبن حموي و لبن حموي و سمن حموي و مشمش حموي و خضار حموية ...

و قد شارك أبناء المدينة بكافة أطيافها في الحياة البرلمانية الوليدة بعيد الاستقلال ، بتنافس ديمقراطي تفصل فيه صناديق الاقتراع ، و كنت تجد في هذه المدينة المسالمة ، المسيحي على قوائم الإخوان المسلمين ، كما تجد العربي إلى جانب الكردي ( كآل البرازي و آل الزعيم و آل كوجان و آل الكردي.. ) و التركي ( كآل التركماني و آل العظم و آل قوجة و آل القوشجي...)،و أبناء الريف و البادية مع أبناء المدينة ، في تآلف و محبة قل نظيرهما.

و عندما أنقلب العسكر على الحياة البرلمانية و المدنيّة كان أبناء حماة في طليعة الرافضين للديكتاتوريات ، و وقفوا بشجاعة – عندما جبن آخرون - في وجه حسني الزعيم و أديب الشيشكلي ، رغم أن الثاني كان من أبناء المدينة، و الأول كلف رئيساً للوزراء من أبنائها(وهو محسن البرازي) .

فليس غريباً إذاً على هذه المدينة المحافظة و الشجاعة أن تكون في طليعة المدن التي وقفت في وجه العسكر البعثيين الذين وصلوا إلى السلطة على ظهر الدبابة في 8آذار من عام 1963م ، و أعلنوا حالة الطوارئ و الأحكام العرفية منذ ذلك التاريخ،و ألغوا الحياة المدنية و الانتخابات البرلمانية،و منعوا الأحزاب،وبدؤوا بإثارة و استفزاز حفيظة الشعب المؤمن المحافظ ، بأفكارهم الإلحادية التي فرضوها على المجتمع. و رفعوا شعارات : ( يا أخي قد أصبح الشعب إلهاً )، و ( لا تسل عني و لا عن مذهبي*أنا بعثي اشتراكي عربي )، و (آمنت بالبعث رباً لا شريك له* وبالعروبة ديناً ماله ثاني)..

وكانت أحداث حماة التي انطلقت شرارتها في السابع من نيسان أبريل 1964م أي بعد عام فقط من استلام عسكر البعث السلطة في سوريا ، دفاعاً عن القيم التي أمن بها شعبنا ، و رداً على استفزازات البعثيين ، و تحرشات الحرس القومي ( مليشيات البعث ) ، حين انطلقت المظاهرات من جميع مدارس حماة مطالبة بالحريات العامة،و وقف استفزازات البعثيين ، و هنا تدخل الحرس القومي البعثي لقمع التظاهرات و عندما فشل ، طلب عبد الحليم خدام محافظ حماة من وجهاء المدينة إعطاءه مهلة ، حتى يفاوض المسؤولين في دمشق للنظر في مطالب الجماهير لكنه عاد بخفي حنين ، و تدخل الجيش البعثي العقائدي هاتفاً :" هات سلاح و خوذ سلاح* دين محمد ولّى و راح " ،واستغل حمد عبيد وزير الدفاع البعثي تلك الأحداث للثأر من أديب الشيشكلي الرئيس الحموي الذي قُمع عصيان جبل العرب في عهده، فحسم المعركة بالنار و الحديد، بعد أن قتل حوالي سبعين من أبناء المدينة ، ودمر مسجد السلطان فوق رؤوس المحتمين فيه . [وقد كتبت جريدة الحياة في (24/4/1964م) تقول : إن المطلعين على مجرى الأحداث في حماة يقولون إن الذي قصف المدينة بالمدفعية هو العقيد حمد عبيد ، وإنه اغتنمها فرصة للانتقام بسبب قصف جبل الدروز في عهد الزعيم أديب الشيشكلي بقيادة المقدم فؤاد الأسود ] .

ويذكر أكرم الحوراني في مذكراته :[ لقد كانت الحجج التي تذرع بها الضباط الطائفيون للانتقام من حماة حججاً مفضوحة ومشبوهة ، ولا أظن الجاسوس كوهين كان بعيداً عن الإثارة الطائفية بين هؤلاء الضباط مما سيأتي تفصيله فيما بعد ، فمن حماة انطلقت كتائب الفداء الأولى إلى فلسطين عام (1948م ) كما كانت حماة أكثر المدن حماساً للوقوف في وجه الديكتاتور أديب الشيشكلي ] . و حكمت المحاكم العسكرية الميدانية - برئاسة الضابط البعثي مصطفى طلاس – بالإعدام على عدد كبير من علماء ووجهاء مدينة حماة ،واقتحمت المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها، واعتقل الكثير من المواطنين.

كما أصدرت الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية وهم مجموعة من المثقفين من محامين وأطباء ومهندسين وصيادلة بياناً بتاريخ (21/4/1964م) جاء فيه : في هذا اليوم نتوجه إلى شعب سوريا الذي لا ينام على ضيم ، ونقول للطغمة الحاكمة :أن الشعب إن أمهل فهو لا يهمل، وأن ساعة الحساب قد دقت . إن الجبهة الوطنية الديمقراطية الدستورية تدعو كافة المواطنين للالتفاف حولها ومتابعة العصيان المدني حتى تتحقق مطالب الشعب وهي : 1- إلغاء حالة الطوارئ .

2- إطلاق الحريات العامة وإعادة العمل بالدستور .

3- تشكيل حكومة انتقالية من عناصر وطنية تتولى إجراء انتخابات حرة نزيهة لإقامة حكم ديموقراطي سليم . ]

و لم يقتصر العصيان على مدينة حماة فقط ، بل توسع ليشمل باقي المدن الرئيسية في سوريا كدمشق و حلب و حمص، على شكل إضرابات واحتجاجات عامة ، و هنا تدخل الرئيس محمد أمين حافظ وطلب مقابلة عالم حماة الجليل ، الشيخ/ محمد الحامد رحمه الله ، و اتفقا على تهدئة الأمور ، مقابل إصدار الرئيس الحافظ عفواً رئاسياً عاماً على جميع المعتقلين و المحكومين.

وهذه الفتنة التي حصلت في حماة ، و التي لم تعالج بحكمة ، مازال السوريون يعانون من جراحها التي لم تندمل بعد ،و هي التي جعلت الشيخ مروان حديد ينفصل ببعض شبابه عن جماعة الأخوان المسلمين ، مقرراً اللجوء للعمل المسلح ضد السلطة البعثية الغاشمة والتي بدأت باستخدام السلاح والبادي أظلم حسب رأيه.

وكلنا يعلم ماذا حل بسوريا نتيجة هذه الفتنة من أحداث و مجازر مأساوية في نهاية السبعينات و عقد الثمانيات من القرن الماضي ، و آثار تلك الأحداث التي لم تحل حتى الآن ،و التي تبقى تنذر بانفجار البركان.

و استمر الصراع بين السلطة و الشعب – في حماة و سائر المدن السورية – طيلة سنين البعث العجاف ، و كانت المسيرات الشعبية و الإضرابات و الاحتجاجات سمة الشارع السوري ، و كانت الأعياد و المناسبات الدينية و الوطنية ، كعيد المولد النبوي في كل عام مناسبة تذكر بها الجماهير السلطة بأنها لا يمكن أن تتخلى عن مطالباتها المشروعة مهما اشتدت قبضتها الأمنية ، وكانت أحداث الدستور عام 1973م ، و الذي كرست بنوده الهيمنة و الوصايا لفئة فاسدة من المجتمع على رقاب العباد و البلاد، فاندلعت المواجهات الشديدة مرة أخرى،وحرقت فروع الحزب و المخابرات ، و تدخل الجيش ليسكت الشعب بالقوة العسكرية ، و ليسوق العلماء و الوجهاء إلى السجون و المعتقلات .

وتوالت تصريحات القادة البعثيين المرضى التي تنم عن حقد أعمى على هذه المدينة الجميلة الآمنة ، و خاصة من رفعت الأسد شقيق الرئيس حافظ الأسد ، الذي قال في مرات عديدة : " سأمحو حماة من الخريطة "، و " ستقول الأجيال اللاحقة كانت هنا مدينة اسمها حماة "، و " سأجعل حماة مزرعة للبطاطا " ، و " سنقيم مكان حماة حدائق و مزارع و فنادق و مقاصف و مطاعم و نسكر على أنقاضها "

ويقول الحوراني في مذكراته: [ ومن المؤلم أن مدينة حماة قد ظلت بعد أحداث عام (1964م) هدفاً للتنكيل الطائفي إذ تعرضت مرة أخرى عام (1982م) للتدمير والتنكيل بأهلها بوحشية فاقت كل تصور عندما استباحت المدينة ما يسمى بالقوات الخاصة بقيادة علي حيدر ، وسرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد ، فقصفت معظم أحياء المدينة على رؤوس أهلها ، واعتدت على أعراض نسائها ، وكانت حصيلة القصف استشهاد أكثر من خمسة وثلاثين ألف شهيد ، من أبنائها وبناتها ، كما هدمت مساجدها الأثرية وقضت على معالمها التاريخية ، ومنها قصر العظم الأثري ، الذي كان متحفاً للمدينة فنهبت محتوياته من التحف الأثرية للعهود التاريخية التي تعاقبت على المدينة ] .

ويقول الحوراني :[ لقد كان هذا الأسلوب الاستفزازي هو الأسلوب الذي اعتادت السلطات البعثية استعماله لتفجير النقمة الشعبية واستدراجها ثم إجهاضها قبل نضجها وتمام استعدادها ، مع استعداد السلطات الكامل لمواجهة الانفجار ] .

و يقول :[ إنني لا أشك أبداً بأن يداً سوداء خارجية كانت وراء ما تعرضت له مدينة حماة في المرتين من خراب وتقتيل وتنكيل وحشي ، وإنه لمن دواعي الأسى والحزن أن يناضل الشعب السوري ويقدم التضحيات خلال أكثر من أربعين عاماً في عهدي الاستعمار الفرنسي والاستقلال في سبيل ترسيخ الوحدة الوطنية بين مختلف طوائفه ومذاهبه ؛ ثم تستيقظ هذه العصبيات الموؤودة بعد الثامن من آذار بشكل مجنون ] .

و اليوم و بعد أكثر من عشرة أشهر من ثورة الكرامة السورية التي انطلقت شرارتها في 15 آذار مارس 2011 ، و هتافات شعبنا التي تشق عنان السماء صباح مساء ، على طول و عرض الوطن من حوران الشهامة و سويداء بني معروف في الجنوب إلى قامشلو أزادي و حلب البطولة و إدلب الشجاعة في الشمال و من بوكمال و دير وميادين النشامى في الشرق إلى لاذقية العرب و بانياس الرجولة و تلكلخ الكرامة و زبداني البطولة في الغرب  بما في ذلك أبطال دمشق و ريفها الأشاوس و أحرار العاصي أبناء خالد و أبي الفداء :)) الموت و لا المذلة ، بعد اليوم ما في خوف ، عالجنة رايجين شهداء بالملايين ، ما في للأبد ما في للأبد عاشت سوريا و يسقط الأسد ...))

لن يستطيع الأسد الابن - الذي يظن أنه سيكرر ما فعله أبوه – أن يسكت هذا الشعب الثائر العظيم الذي لن يلدغ من جحر مرتين ، فإذا اقتحمت حماة تداعت لها القامشلي و البوكمال و جبل الزاوية و حوران وكافة مدن و قرى سوريا تردد على قلب رجل واحد : ( يا حماة إحنا معاك للموت )

فهل  اقتنع الأسد الابن أن المجازر تقتل شهداء لكنها تحيي شعوباً ؟؟؟؟

و قريباً – بإذن الله - سنقول للراحل عبد المعين الملوحي الذي قضى قبل أن يتحقق حلمه حين أنشد :

(( تُرى أيعود للعاصي صباه؟ ** فيرفل بعد في ثوب قشيب

ترى أأنام و الصفصاف يضفي ** عليّ الظلّ في المرج الخصيب ؟ )) 0

: نعم سيعود .....

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية