يوميات بلا أسرار في المخيمات 4

يوميات بلا أسرار في المخيمات

الجزء الرابع

سنتعلم ونعمل لنصنع المستقبل

نسيبة بحرو

العلم والمعرفة .. كالنبع المتجدد المتدفق باستمرار، ومهما امتلك الانسان منهما فإن الاكتفاء بما لديه يعتبر نقصاً ، والثبات عند حد معين هو في حقيقته تراجع ..

وفي المخيمات التركية حيث تمضي الأيام وتتلوها أشهرٌ قاربت العام ، أوجد انقطاع اللاجئين السوريين عن مصدر العلم مشكلة النقص والتراجع التي شملت مختلف الأعمار .. وبشكل أخص الأطفال الذين حرموا حتى من تعلم المباديء الأساسية ، فضاع منهم حق التعلم ليصبح كغيره من الحقوق الكثيرة المفقودة ، أو المسلوبة بتعبير أدق ..

وتحت وطأة انتظار المجهول وعدم الإحاطة بموعد نهاية حياة المهجر، بل وخشية الأسوأ المتمثل بعدم العودة إلى الوطن ، أوجدت الحكومة التركية لضيوفها اللاجئين مصادر بديلة للعلم والمعرفة ليغتنموا هذه الأوقات الطويلة الباردة بما هو مثمر ومفيد ، وبما يعطي لأيامهم دفء الحياة ..

فأنشأت داخل المخيمات خيماً خاصة وجهزتها بمتطلبات التعلم الرئيسية ، فبدت كالمدارس المصغرة بفصول متفرقة.. وأرسلت لهم أساتذة أتراك يدرسونهم اللغة التركية لتكون سنداً لهم في حياتهم المستقبلية ، ويدرسونها للأطفال تمهيداً لتعليمهم المناهج العلمية التركية ، والتي تتناول مختلف المعارف والمهارات..

وداخل هذه الفصول الصغيرة .. نجد الأطفال وقد جلسوا متجاورين ، وعلى وجوههم امتزجت تعابير اللهفة والسعادة بتعابير الحيرة والغربة .. فهاهم من جديد في صفوف الدراسة وبين أيديهم الكتب والأقلام ، إلا أنهم في عجب من اختلاف الحروف والأرقام ..

زينب ، اسماعيل ، عمر ، أحمد ، عدنان ، ابراهيم ، سميحة ، بلال ، أمينة ، مصطفى ، خليل ، علي ، وغيرهم وغيرهم الكثير .. هؤلاء هم براعم الربيع المعطرة بالأحلام الواعدة التي دهسها النظام السوري بوحشيته ، فأدركوا الرصاص والنار قبل الكتاب والقلم ، وفهموا الحرب والتهجير قبل الفنون والمهارة ..

هم يعلمون بحقيقة المأساة في بلادهم ، ويأملون بزوال هذا الكابوس الذي أقلق طفولتهم ، وحين تسألهم عن سبب قدومهم الى المخيمات ، يتسابقون في وصف أشكال الاجرام التي مارسها النظام في حقهم ، وعلى شفاههم ابتسامة بريئة عنيدة تأبى الزوال ، رغم قسوة ما يقال ..

الأمل بحياة أفضل ملأ قلوبهم الصغيرة ، فانتظموا في صفوف الدراسة بتشجيعٍ ومتابعة من ذويهم الذين أدركوا أهمية هذا العلم .. وإن تأخر أحد الأطفال يوماً ، دخل وفي العين تلوح نظرة المخطيء الخجول الذي يطلب المعذرة والسماح ..

لقد تعلموا وأتقنوا .. فغدت ألسنتهم كالبلابل المغردة باللغة التركية .. وفي فصول أخرى ، نجد فتيات شابات بعمر الزهور المتفتحة ، وقد انعكفن على تعلم مختلف الفنون والمهارات ونسج الصوف وغرس الخرز دون كلل أو ملل .. مما أعطى لحياتهن المتعة والفائدة التي تجسدت في بصمة انجاز ..

فمن مفارشٍ نثرت أيديهن عليها حبات الخرز الملون البراق فرسمت عليها أزهار الجمال والكمال ، إلى شال صوف نسجت أناملهن عليه كلمة لا تكاد تفارق اللسان ، سورية حرة..

وتعددت انجازاتهن من أعمال الصوف لتغطي الكثير من الجوانب والاحتياجات ، كأدوات الزينة ومختلف قطع الثياب ، الرداء والقبعة وحتى الحذاء ..

وبصمة أخرى من الإنجاز طبعها شابٌ أقام محلاً لبيع الفلافل ، حين أعده بإسم وهيئة هذا المحل المقام على أرض بلاده ، فبدا مشابهاً له تماماً وكأنه قطعة اقتصت من أرض الوطن ..

أجد في كل ما سبق .. استمرار في الحياة بكافة جوانبها ، ورفض قاطع لأن يكون المواطن السوري في مؤخرة الركب .. كما أجد به تتمة لمسيرة كفاح عاشها الشعب السوري تحت قمع نظام استبدادي ، لا يعطي الانسان حقه ولا يطلق يديه ..

ولكن هيهات ، فالمواطن السوري أصبح طليق الفكر حر اليدين .. تماماً كهذا الطفل الذي لم تستقبله صفوف الدراسة لصغر سنه ، فاتخذ زاوية ليدرس بنفسه بصحبة قلمه وكتابه .. ولسان حاله يقول : أنا أريد .. وأنا سأفعل ما أريد .

">