التمكين
ميسون عبد الرحمن النحلاوي
كنت أتصفح بريدي الإلكتروني فكان أن جئت على إحدى الرسائل التي تعرض لمفهوم التمكين من وجهة نظر الدكتور راغب السرجاني. وأنا أكن للدكتور راغب السرجاني كل الاحترام والتقدير، ولكنني فوجئت بعرضه لمفهوم التمكين بالصورة التي قرأتها، وكنت كلما تابعت القراءة زاد إلحاح عقلي في رسم علامات الاستفهام، فكان أول ما أثار استغرابي قوله: "إن المغزى الحقيقي لوجودنا في الحياة ليس التمكين في الأرض وقيادة العالم، وإن كان هذا أحد المطالب التي يجب على المسلم أن يسعى لتحقيقها، ولكن المغزى الحقيقي لوجودنا هو عبادة الله عز وجل- انتهى"
في الحقيقة أنا لا أرقى بعلمي المتواضع لمناقشة الدكتور السرجاني ولكنني ربما أخالفه الرأي في هذه الجزئية فأقول:
- لا أعتقد أن هناك تناقضاً بين التمكين كغاية من الوجود، وعبودية الثقلين اللذين إنما خلقهما الله لعبادته "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، فهل يمكن أن تتحقق هذه العبودية على وجهها الأكمل بعيداً عن التمكين؟ ولو لم يكن الإنسان يسعى ليتمكن في الأرض ويمكن دين الله فيه، فلم يجاهد ويسعى ويبذل دمه وماله ونفسه؟ أليس كل ذلك من أجل إعلاء كلمة الله وتحقيق عبوديته في الأرض؟
- يقول تعالى في سورة النور: ": وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " (النور 55)، والاستخلاف في الأرض هو التمكين فيها والملك لها والقيادة والسيادة لمن عليها .
- التمكين ضروري للشعور بالأمان . وكما تبين الآية الكريمة، أن الله وعد الذين آمنوا تمكين "الدين" بعد الاستخلاف، دين الله الذي ارتضى ... ومع هذا التمكين يبدل خوفهم أمنا " وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا "، إذاً التمكين أمر ضروري للشعور بالأمان،
- ومع الأمان الذي يضمنه التمكين تتحقق العبودية الخالصة لله عز وعلا. " وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا "، أو أن من شروطه العبودية الخالصة... بعد هذا التمكين الذي يعطيه الله لعباده "الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، يأتي دور الإنسان فإما صلاحاً وإما كفراً، وهذا خياره، وهنا تأتي صفة من يكفر ويجحد هذا التمكين: " وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ".
- كما أن عبادة الله عز وجل لا يمكن أن تتحقق بالمعنى الذي أراده الله عز وجل الكامل المتكامل "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون"، إلا بالتمكين، وهذا الأمر لا يخفى على أحد فينا فيما يقرأه ويعيشه وفيما عرفناه من أخبار القرون فذو القرنين كان من المتمكنين "إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا" وكان على يديه تشييد الردم الذي لن ينهار إلا مع قيام الساعة "آية من آيات الساعة"، وسيدنا يوسف كان من المتمكنين، وسيدنا داوود وابنه سليمان كانا من المتمكنين في أمة مكنها الله فترة من الزمن، وكل هؤلاء رضي الله عنهم، كانوا استمراراً لتمكين سيدنا إبراهيم عليه السلام " إن إبراهيم كان أمة .... وآتيناه في الدنيا حسنة ..... النحل 119"، وسنأتي ان شاء الله على مقومات الفرد الأمة من خلال مثال سيدنا إبراهيم عليه السلام
- وليست المشكلة أن التمكين يبقى بضع سنوات ويزول، كما ضرب الدكتور مثلاً العائلة الزنكية، المشكلة تكمن في تضييع الأمانة وجحود نعمة التمكين من خلال العصيان واتباع الشهوات والانبهار بالسلطة والسلطان، وهنا تأتي جزئية التخلي عن مفهوم العبادة الحقيقي مع الاستسلام لهذه الشهوات، فلو فهم هؤلاء أن الحفاظ على هذا التمكين هو تحقيق العبادة المطلقة لله عز وجل لما تخلوا عن مقومات العبادة السلوكية والروحانية الحقّة.
- من جهة أخرى، لا يوجد رابط ثابت بين طول فترة الابتلاء والشدة وقصر فترة التمكين، وإن كان التاريخ قد شهد أمثلة على هذا ، فذاك لأسباب بشرية تصب في خانة الضعف البشري والتفريط في شروط التمكين، يقول الدكتور: " ... ولذلك كله فإن الله الحكيم الذي يريد منا تحقيق غاية الخَلْق، الرحيم الذي يريد لنا الفلاح والنجاح قد اختار لنا أن تطول فترة الإعداد والبلاء والشدة، وأن تقصر فترة التمكين والقوة وليس لنا إلا أن نرضى، بل نسعد باختياره، فما فعل ذلك إلا لحبه لنا، وما أقرَّ هذه السُّنَّة إلا لرحمته بنا - انتهى".
طبعاً كل ما نعيشه هو بمشيئة الله عز وجل واختياره، ولكن من قال أن الله عز وجل هو الذي اختار لنا أن تطول فترة البلاء والشدة، وتقصر فترة التمكين؟ طول فترة البلاء والشدة أمر مفهوم وطبيعي ويتناسب مع حجم التصحيح وقيمة العقيدة التي يكون السعي لترسيخها، أما قصر فترة التمكين فهذا – مع أن مشيئة الله غالبة بالطبع – من عمل الإنسان نفسه، بسبب شططه وجهله وظلمه "وكان الإنسان ظلوماً جهولا"، فنحن لم نقرأ في آيات التمكين أي مدة زمنية أو ما يحدد طولها وقصرها!
- للتمكين أسباب، ولدوامه بعد حصوله ضوابط، فهو من نعم الله على عباده المؤمنين، فإذا شكروا هذه النعمة بالحفاظ عليها وعلى مقوماتها ،استمرت واستطالت، أما إذا جحدوها وتنكّروا لأسبابها ومقوماتها، حينها ستكشف عنهم ويوكلون إلى أنفسهم . يقول تعالى : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " النور: (55 (،وقال تعالى: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور" - الحج: 41 ، ولكنه لم يحدد لهم أجلاً
- نحن مأمورون بالسعي للتمكين، لتمكين دين الله، ولو لم نسعى إليه لكنا آثمين، ولكننا أيضاً مأمورون بالحفاظ على هذا التمكين، أما عن أمراض التمكين فنحن من نسمح لها بالدخول إلى قلوبنا والاستقرار فيه، أو نمنعها من ذلك، لننظر إلى سادتنا أبو بكر و عمر وعثمان وعلي ....
- التمكين لا يرتبط حكماً بالتكبر والتنطع والاستكبار على الرعية والإعراض عنها، وهذا ليس استنتاجاً أو استنباطاً، بل هو حال قرون وأمم حكاها لنا القرآن الكريم، وأنا أستغرب ربط الدكتور راغب التمكين بالتكبّر على الضعيف والاحتجاب عنه يقول الدكتور راغب:
"ألم يحذرنا حبيبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر الشائع فقال: "مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ"؟! هل يحتجب الفقير أو الضعيف أو المشرد في الأرض؟ لا.. إنما يحتجب الممكَّن في الأرض، ويحتجب الغني، ويحتجب السلطان." انتهى د. راغب".
وأقول: هل احتجب سيدنا أبو بكر؟ هل احتجب عمر؟ هل احتجب عمر بن عبد العزيز؟ ذي القرنين؟ سيدنا سليمان؟
كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ وَلاَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ" والتولية من التمكين، وهنا لا ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم حيثية التولية (التمكين) ولكنه ينكر على الوالي سلوكية من السلوكيات السيئة مع الرعية، وهو في هذا صلى الله عليه وسلم يضع شرطاً من شروط التمكين.
- ثم أهم ما في الأمر، أن الدكتور راغب يربط فكرة التمكين بالفرد، في حين أن التمكين المنشود دائماً هو تمكين أمة، إلا أن الدكتور راغب يقصر المفهوم بعمقه وسعته على عدد من الأنبياء عليهم السلام والصالحين، فيقول: " كم سنة عاش نوح -عليه السلام- يدعو إلى الله ويتعب ويصبر، وكم سنة عاش بعد الطوفان والتمكين؟! أين قصة هود أو صالح أو شعيب أو لوط -عليهم السلام- بعد التمكين؟! إننا لا نعرف من قصتهم إلا تكذيب الأقوام، ومعاناة المؤمنين، ثم نصر سريع خاطف، ونهاية تبدو مفاجئة لنا.لماذا عاش رسولنا صلى الله عليه وسلم إحدى وعشرين سنة يُعِدُّ للفتح والتمكين، ثم لم يعش في تمكينه إلا عامين أو أكثر قليلاً؟! وأين التمكين في حياة موسى أو عيسى عليهما السلام؟!- انتهى"
وأقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يهدف من مسيرته في الرسالة أن يحكم هو ويتمكن هو في شخصه، كان يضع أسس أمة.. أمة تحكم العالم، كان يسعى لتمكين أمة، وهذه حال جميع الرسل، الرسل لا يمكنك يا سيدي أن تقيس حياتهم ورسالتهم بمنظار التمكين الفردي!
الرسول صلى الله عليه وسلم مكّن لأمة شغلت العالم حضارة في عصورها الذهبية ، وشغلته في حياكة المؤامرات والتخطيط للحروب للقضاء عليها حتى يومنا هذا...
أمة يخاف من سيادتها القاصي والداني... أمة يعرف عظمتها عدوها قبل صديقها... أما لماذا تعيش عصور الوهن والضعف، الذي قارب ليلها اليوم على الإنقضاء – إن شاء الله– فهذا سببه.. نحن البشر بتخلينا عن أسباب التمكين... ولكننا عائدون بإذن الله إلى ديننا وثوابتنا نحقق شروط هذا التمكين خطوة خطوة...
أخلص إلى القول أن التمكين هو غاية المسلم في هذا الكون، من خلاله يحقق خلافة الله في الأرض، يقيم دينه الذي ارتضى له، ويحقق فيه غاية وجوده..
والله أعلم
والله من وراء القصد