الاستبداد التام.. أو الموت الزؤام
علاء الدين العرابي
عضو رابطة الإسلام العالمية
" هذا الشعب لا يصلح له إلا الحاكم المستبد "
" تلك الأمة لا تستحق الحرية "
" العرب لا تصلح لهم الديمقراطية "
مثل هذه العبارات تتردد على ألسنة الكثيرين ، سواء على مستوى النخبة أو على مستوى العامة في مجالسهم ، خصوصا بعد انتكاسة ثورات الربيع العربي ، ومن العجيب أنك لو سألت من يطلق مثل هذه العبارات .. هل أنت من هؤلاء الذين يعشقون الاستبداد ؟ لأجاب : لا .. ليس أنا ، ولكن غيري ، ولو سألت غيره لقال : ليس أنا ولكن غيري وهكذا ...
هذا ما يجعلنا نتساءل .. ما مصدر هذه الأقوال ؟ .. وغالبا ما يكون مصدرها هو المستبد نفسه ، من خلال أجهزته المخابراتية ، سواء في صورة إشاعة أو في صورة تحريض إعلامي ، وقد يكون مصدرها أصحاب القرار الدولي من خلال مراكزهم البحثية ؛ من باب أن الحرية حرام على هذه الشعوب المتخلفة ، وكأن هذه الشعوب بدعا من شعوب العالم
من ينظر على الخريطة العالمية لا يجد غير منطقتنا العربية التي لا تزال تقبع تحت حكم الأنظمة الدكتاتورية المستبدة ، وكأنه لم يحن الوقت بعد لشعوب هذه المنطقة أن تحصل على حريتها ، ولعلنا نتعجب .. لماذا هذه المنطقة بالذات ؟ .. والإجابة ليست في ثروات النفط فقط ، ولكن الأخطر من النفط هو عودة الإسلام للحكم ، وهذا الأخير هو الخط الأحمر ، والغريب أن ظاهرة " الإسلاموفوبيا " لم تعد تؤرق الغرب فحسب ولكن تؤرق الأنظمة الدكتاتورية التي تحمل الإسلام في بطاقات أشخاصها ، كما تسطره في دساتيرها
الاستقرار .. أو الفوضى
هذه هي حجة الأنظمة المستبدة ، وهذا ما قاله فرعون لشعبه من قبل وهو يواجه نبي الله موسى عليه السلام المطالب بالحرية
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) 26 غافر
الاستقرار في مقابل الحرية ، الأمن في مقابل القمع ، الخبز في مقابل الخنوع ، الأمن القومي مقابل الإرهاب .. هذه هي المعادلة في نظر الأنظمة المستبدة ، وكأن شعوب العالم لا تجمع بين الحسنيين ؛ الاستقرار والحرية
وكما أشاعت تلك الأنظمة المحلية ، ومن ورائها الأنظمة الدولية فزاعة الإسلام السياسي خوفا من مجيء الإسلاميين للحكم ، أشاعت فكرة الاستقرار في مقابل الفوضى ، مع أن الفوضى سنة من سنن الثورات لأنها تقوم على فعل غير منظم ، ولكن تلك الفوضى هي التي تصنع التغيير ، ولننظر للثورة الفرنسية كمثال :
التاريخ يحدثنا أن فرنسا بعد انطلاق ثورتها في عام 1789 - وهي الثورة ألهمت شعوب أوربا - ظلت خلال عشر سنين في حالة فوضى ، حصل فيها أحداث وتحولات كثيرة منها تحول فرنسا من حكم ملكي إلى حكم جمهوري ، ومنها اقتحام الثوار سجن الباستيل رمز القمع والاستبداد ، وقاموا بذبح حراس السجن ومديره وقطع رؤوسهم وتعليقها على عصيان ومثلوا بالجثث ، ومنها كتابة دستور ، ثم تم نقضه بدستور آخر ، ومن مظاهر الفوضى أن ظل الإرهاب هو سيد الموقف طيلة تلك السنوات العشر ، ومنها أن تولت حكومة من الثورة لمدة أربع سنوات وفشلت في إصلاح الاقتصاد ، ثم كانت نهايتها بانقلاب عسكري قام به نابليون ، ولم تصل فرنسا للحكم الديمقراطي إلا بعد ستة عقود من اندلاع الثورة
الاستبداد التام 00 أو الموت الزؤام
" المستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم ، ويحكم بهواه لا بشريعتهم ، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق "
هذه العبارة نقلا من كتاب عبد الرحمن الكواكبي " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "
في هذا الكتاب الذي يجب أن يقرأه كل ثائر ليعرف أن الاستبداد السياسي هو الداء العضال ، وقد جعل الكواكبي أن للاستبداد أداتين هما : الجهل ، والجندية
الجهل بالطبع لا يعني الأمية ولكن يعني تسليم العقل لمن يقلب الأمور فيصور الباطل على أنه الحق ، كأن يصور أن الحكم العسكري المستبد يمكن أن يأتي بخير
أما الجندية التي عناها الكواكبي والتي هي أداة الاستبداد الثانية هي الجندية المقترنة بالطاعة العمياء ، ومثالها جنود فرعون الذين أعانوا فرعون على استبداده ؛ فلولاهم لما كان لفرعون أن يتسلط على رقاب العباد ويقتل أبناءهم ويستحي نساءهم
الاستبداد هو شعار الأنظمة الفاشية الدكتاتورية ، فهي تخير شعوبها بين الاستبداد أو الموت خوفا ، أو الموت جوعا ، أو الموت كمدا ، المستبدون يصنعون جمهوريات الخوف ، وقوتهم ليست في أسلحة القمع والقهر فحسب ، وإنما قوتهم يستمدونها من أتباعهم الخانعين المنبطحين الذين تنازلوا طوعا عن حريتهم
يقول الكواكبي :
" العوام هم قوة المستبد .. بهم وعليهم يصول ويطول .. يأسرهم فيتهللون لشوكته ، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم "
وهذا ما يعرضه القرآن الكريم من خلال قصة فرعون
" فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ" الزخرف 54
يقول صاحب الظلال :
" واستخفاف الطغاة للجماهير
أمر لا غرابة فيه فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم
الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها ويلقون في روعهم ما يشاءون من المؤثرات
حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين
قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين! ولا يملك الطاغية أن يفعل
بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله،
ولا يَزِنون بميزان الإيمان. فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم
كالريشة في مهب الريح. "
وهنا سؤال له وجاهته ..
ماذا لو كان القوم منقسمون بين رافض للاستبداد وبين مؤيد له ، كما هو حاصل اليوم في دول الربيع العربي .. هل يزول الاستبداد ؟
والجواب نستحضره من صفحات التاريخ ، ومن سنن الله في الكون ، فالتاريخ يحدثنا أنه إذا ثار بعض القوم على الاستبداد ، وصبروا على ذلك تمكنوا من القضاء عليه ، كما أن سنة الله في التغيير تفضي إلى نفس النتيجة
" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" الرعد:11
إذن فالمعادلة المطروحة من قبل الثورات المضادة والتي مفادها " أنتم شعب ونحن شعب " هي معادلة صحيحة ، وتتفق مع سنة التغيير ، كما تتفق مع حركة التاريخ ، فالذين قادوا حركة التغيير في الثورات الناجحة هم جزء من الشعب وليس كل الشعب ، وهم الجزء الذي أسقط الجهل ، واستلهم الوعي في طريقه للتغيير
هل نحن شعوب لا يصلح لها إلا الاستبداد ؟!
من نحن ؟ .. لا يخرج الضمير عن أحد أمرين ، العرب أو المسلمين
فأما العرب .. فيقول عنهم ابن خلدون في مقدمته
أنهم أمة تتميز بـ " الخروج عن ربقة الحكم و عدم الانقياد للسياسة"
كما يقول عنهم :
" أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة و الأنفة و بعد الهمة و المنافسة في الرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم ، فإذا كان الدين بالنبؤة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم و ذهب خلق الكبر و المنافسة منهم فسهل انقيادهم و اجتماعهم و ذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة و الألفة الوازع عن التحاسد و التنافس "
فكيف نرى العرب اليوم ينتقلون من النقيض إلى النقيض ، من حالة الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة .. إلى الانقياد التام بل والاستسلام للمستبد
وأما المسلمون .. فنعلم أن الإسلام جاء ليحرر الناس من عبادة غير الله ، وجعل من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر كما جاء في الحديث الشريف " إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " رواه الترمذي
بل جعل الإسلام الموت في سبيل قول كلمة حق في وجه السلطان شهادة من أعظم الشهادات في سبيل الله كما جاء في الحديث الشريف :
" سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه وأمره فقتله " أخرجه الحاكم وصححه
وجعل الموت في سبيل الدفاع عن الحرية الشخصية شهادة في سبيل الله ، فكما جاء في الحديث :
" من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد " رواه الترمذي
وقد لخص موقف الإسلام من قضية الاستبداد أحد جنوده أمام كسرى ملك الفرس لما سأله كسرى
ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام
هذه هي روح الإسلام ، وهي ثورة على الاستبداد ، فلا عبادة لحاكم ، ولا عبادة لنظام
إذن .. فكيف أصبحت هذه الشعوب تعشق الاستبداد ؟ ..
أعتقد أن هذا السؤال يستحق دراسة واسعة إلا أنه يمكن أن نضع لذلك أسباب منها :
الأول : وقوع تلك الشعوب تحت نير الاستعمار عقودا كثيرة
الثاني : انحراف بوصلة الدين الصحيح عن الحياة إما بفعل الغزو الثقافي ، أو بفعل تهميش دور العلماء العاملين إما عمدا وإما طواعية ، أوبفعل مناهج التعليم والتربية التي تكرس للاستبداد
الثالث : ضلال علماء السلطان الذين لهم القدح المعلى في ذلك من خلال بيع دينهم للسلطان بعرض من الدنيا ، فهم تارة يلوون أعناق النصوص لتوافق هوى الحاكم ، أو يسكتون عن الحق عندما يكون السكوت جريمة أشد من جريمة قتل الشعوب ، أو يصورون للناس أن ذات الحاكم مصونة ومنزهة عن النقد ، إما بلغتهم التي ظاهرها الفقه وباطنها الضلال ، وإما بلغة الإعلام الحالي الذي يدعو لهيبة الدولة ، وكأن هيبة الدولة هي ذات الحاكم ، ولما لا فالحاكم المستبد هو نفسه الدولة
الاستبداد .. والإرهاب
القوى العالمية الآن تطلق لفظ الإرهاب وتعني به الإسلام ، ولكنهم يدلسون على الناس ، ويلصقونه ببعض الجماعات الجهادية المتشددة ، مع أن هذه القوى هي التي صنعت تلك الجماعات ، ولا ينسى التاريخ دعم أمريكا للقاعدة في أفغانستان عندما كانت روسيا هناك ثم ما لبثت أن تنكرت لها ، هذه القوى العالمية تتعامل مع الشعوب الإسلامية في قضية الحرية من واقع قول الشاعر :
أحرام على بلابله الدوح 00 حلال للطير من كل جنس
الثورة الفرنسية التي حملت لواء الحرية كانت هي أول من رفع لواء الاستبداد خارج حدود فرنسا ، فنابليون بونابرت الذي جاء بعد الثورة الفرنسية كسر هذا الشعار وهو في طريقه لاحتلال أراضي العالم الإسلامي ، وأمريكا التي ترفع لواء الديمقراطية الآن هي التي تدعم انقلابات العالم الثالث بل وتصنعها ، وتمنع أي تجربة ديمقراطية
هذه القوى العالمية لو أرادت أن تنهي ظاهرة الإرهاب لسمحت لشعوب العالم الثالث أن يحصل على حريته ، لأنه لن يكون هناك مسوغ لأي جماعة أن ترفع لواء الإرهاب ، ولكن صناعة الإرهاب صناعة غربية مقصودة لتبرير هيمنته على العالم ، ونحن نسأل هذه القوى العالمية ونسأل أنفسنا سؤال عفوي .. لماذا لم تظهر الجماعات الجهادية التي تتبنى الجهاد ضد الغرب طيلة فترة الخلافة الإسلامية ؟
وبعيدا عن هذه القوى العالمية نجد أن أنظمة الحكم الدكتاتوري في عالمنا العربي ، وهي في الغالب ذيول للأنظمة العالمية الغربية ، هي الأداة التي تصنع الإرهاب سواء بطريق مباشر أو غير مباشر ، والهدف هو وجود ذريعة لبقائهم في الحكم من خلال تصوير مشهد الخطر الداهم أمام شعوبهم والذي يهدد أمنهم واستقرارهم ، تماما كما فعل فرعون عندما صور لقومه أن موسى عليه السلام ومن معه خطرا يهددهم كما يحكي القرآن الكريم على لسانه : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) 26 غافر
وأخيرا فإن شعار الأنظمة الفاشية المستبدة هو ( الاستبداد التام .. أو الموت الزؤام ) ، ولن نقضي على تلك الأنظمة المستبدة إلا عندما نرفع شعار (الاستقلال التام .. أو الموت الزؤام )