يا طفل الثلج.. كذبوا عليكَ
البراء كحيل
لربما لا يوجدُ طفلٌ إلاّ وقد حدّثته أمّهُ عن رجلِ الثلجِ وعن لونهِ الأبيضِ الذي يرمزُ للنقاءِ والصفاءِ والطهارة , أَحَبَّ الطفلُ ذلكَ البياضَ وتمنّى يوماً لو يراهُ أو يُجالسهُ ويلاعبه..
لكنْ غالباً للأسفِ في قصصنا ورواياتنا وقصائدنا نُحاولُ أن نرسمَ الجمالَ منَ القبحِ والدفءَ من البردِ والشجاعةَ من الجُبْن , أو بمعنى آخر نحاولُ تشويهَ الحقائقِ لربما لأنّ القارئ أو المستمعَ يُحبُّ منْ يَكذبُ عليهِ ويكرهُ من يواجههُ بالحقيقة .
لا أدري لماذا لم تُخبرْ يوماً تلكَ الأمّ طفلها أنّ رجلَ الثلجِ ليسَ بالصالحِ وأنّ بياضهُ ليس بجميلٍ وأنّ اللعبَ معهُ ليسَ بالممتع ؟! لماذا كذبتْ تلك الأمّ على صغيرها ؟ لعلّها ظنّتْ أنّ كذبتها لنْ تُكشفَ يوماً وأنّ صغيرها لن يُقابِلَ رجلَ الثلجِ أو يلعبَ معه .
لقد تعلّم طفلنا أنّ النّارَ مُحرقةٌ مؤلمةٌ كإمرأةٍ عجوزٍ شمطاءَ تخطفُ الأطفالَ فخافَها وتمنّى لو تختفي منَ الوجود , لكنْ لم يعلمْ مَنْ علّمهُ ذلكَ أنّه سيبحثُ عن النّارِ يوماً طلباً للدفءِ ولنْ يجدها كيتيمٍ يبحثُ عنْ صدرِ أمّه الدافئ ولكنّ أمّهُ تحتَ الترابِ نائمة .
في جلسةِ حميمةٍ , علّمَ الأبُ ولدَهُ قولَ "فخر البارودي" : "بلادُ العُربِ أوطاني ..." فلا أدري أيّهما أكذبُ ذلكَ الأبُ أم فخرُ البارودي ؟ لقد اكتشفَ متأخراً ذلك الطفلُ أنّ بلادَ العُربِ ليستْ لهُ بوطنٍ وأنّ خيمةً مهترئةً باليةً في صحراءَ قاحلةٍ ممنوعٌ أنْ تَنصبها في بلادِ العُرب ..! وكأنّكَ يا طفلي مصابٌ بمسٍّ أو طاعونٍ تخشى بلادُ العُرب أن ينتقلَ إليها !!
وأردفَ هذا الوالدُ المخادعُ لولدهِ قولاً أكذبَ من سابقه فقالَ : " وكُلّ العرب إخواني " وعجبتُ لأخٍ يموتُ أخوه أمامَهُ برداً وجوعاً وعطشاً ولا يمدّ له يدَ العونِ أو قـُل: أضعفُ الإيمانِ ألاّ يقفَ مع قاتلهِ ضدّهُ ! .
جلسَ طفلنا يوماً في خُطْبَةِ الجمعةِ يستمعُ للخطيبِ وهو يقول : " المؤمن للمؤمنِ كالبينان المرصوص " , " لا يؤمنُ أحدكم حتّى يُحب لأخيهِ ما يُحبّ لنفسه " , " ما آمنَ بي من باتَ شبعان وجارهٌ إلى جنبه جائعٌ وهو يعلم " فما أجملهُ من دينٍ وما أعظمها من تعاليمٍ رسختْ في صدرِ ذلكَ الطفلِ البريء , ولمْ يدرِ هذا المسكينُ أنّ إخوانهُ المسلمينَ لمْ يعلموا من الدينِ إلاّ اسمه وأنّهم هجروا تعاليمهُ ولا أدري لعلّهم هجروا حتّى ربّهم , أفمنْ يهجرُ ربّهُ ألاّ يهجرُ طفلاً شريداً يتيماً جائعاً بارداً ؟!
إنّ التجاربَ والشدائدَ تصنعُ الرجال , والحياةُ مدرسةٌ أمينةٌ صادقةٌ لا تُخادعُ في تعليمها ولا تغشُّ في تجاربها , لا بُدّ أنّ ذلك الطفلَ الذي بدأ يكتشفُ زيفَ وكذبَ مُعظمِ ماحولهُ ومَنْ حولهُ قد تعلّمَ الدرسَ جيداً ولا ريبَ سيُعلّمهُ لأولادهِ بصدقٍ وأمانةٍ , ليكونَ لدينا جيلٌ واعٍ مدركٌ للحقائقِ لا تخدعهُ الكلماتُ البرّاقة ولا العباراتُ الرنّانة ولا الشعاراتُ الحماسية , سيتعلمُ ذلك الطفلُ ويُعلّم أولاده من بعدهِ أنّ السكوتَ عن الضيمِ والظلمِ ضريبتهُ باهظةٌ جداً وأنّ دوامَ الحالِ منَ المُحال وأنّه دفعَ ثمناً غالياً لأنّه صدّق يوماً من علمّهُ أنّه حينما يسقطُ سيجدُ من يمدّ له يدَ العونِ فلم يجد إلاّ يداً تُعيقهُ عن النهوض , فهنيئاً للمستقبلِ بجيلٍ صنعته الشدائد.