امتداد روح "الدولة" في عمق الوعي

امتداد روح "الدولة" في عمق الوعي

عامر القديري – كاتب فلسطيني

طرحٌ يأخذنا لتدشين جدلية تنفتح على كل الاتجاهات في هذا العصر، حيث تتوسع الهوة كلما نأت الحياة الواقعية عن الدراسات النظرية التي لا تفارق حبرها لتتشكل وتغير شيئا مما نعيش.

فالمفترض اليوم أن تواكب سطور الدراسات عقدة العصر، وتقلب الأحداث، وأن تحاكي التأثير في الواقع الذي يستجيب سريعا للمتغيرات، ولكل فعل يطرأ دون ارتكاز على مناهج للتحرك وفق منظومة بناءة، أكثرها إلحاحا ً مشهد الدولة التي ما زالت حلم الساسة، وتطلع المواطن، وأمله في التحقق ليشعر بكيانه، وهويته، ولذا يجب أن نحلل كثيرا قبل أن نقف على أعتاب النتائج أو الركون إلى الأحكام، وتقبل الواقع بتراكبه المختلط بين الفعل الإيجابي والفعل السلبي كيفما جاء من اجتهاد النخبة المجدة.

والبداية هي تساؤل هام هو هل الدولة جسم مادي يقوم على بنائه مجموعة من المهنيين والاختصاصيين، تستخدم فيها مقومات مادية منفصلة عن امتداد الإنسان وروحه؟

أم هي وعي أساسي يتدفق في إدراك الفرد فيتلازم مع حركة تطوره، التي تؤسس للتراكم الجمعي في دائرة المجتمع لتتجسد في النهاية كالتاريخ بأشكال وعناصر يكون مظهرها أثرا ًلما ترصد في وعي الإنسان من شكل هذه الدولة التي بناها.

ينسحب هذا التساؤل على كل كيان في الوطن العربي عموما ً حيث يلامس واقع كل بلد عربي، ويتشابك مع الحياة السياسية في كل بلد يفتقر لآليات سلسة في التعاطي مع الشئون العامة والحفاظ على المصالح المشتركة لكل مواطن ينتسب إلى هذا الاتحاد الأعظم والأشمل، حتى وإن بدت بعض من هذه البلدان في صورة متقدمة لكنها تعتمد أساسا ًعلى عصبيات قبلية تستمد ترابطها من العلاقات العائلية والجهوية التي تؤبد مصير الوطن والشعب في يدها دون التمهيد لعملية تنموية للبنى الاجتماعية من خلال تطويرها بشكل عقلاني وأصيل نابع من الذات، بعيدا ًعن المجازات المتعالية من الرموز والأساطير والتعبئة الشعرية التي تملك الأكثرية المجتمعية من خلال نسق الأفكار والتصورات القائمة على المجاز والصورة المتعالية والمفارقة للعقل البشري.

ولكننا سنتناول حالة المجتمع الفلسطيني على وجه الخصوص، فهل صورة الدولة تسكن وعي الفلسطيني بالدرجة الأولى ليتشكل سلوكه حسب هذه الغائية، وهل يمكن للجمع الفلسطيني أن يسير وفق إستراتيجية عميقة دون أن تحرف مساراته صناعات عارضة، تدسه في غياهب المتاهات، تستنزف فيها طاقات الشعب وطموح العقول الفلسطينية؟

نستعرض الدولة في جدلية ميتافيزيقية على أنها وعي ٌ في عقل الإنسان وامتدادٌ لنفسه أمام تطوره المستمر عبر التاريخ، ولأن الدولة مظهرٌ من مظاهر تطوره، وهي ذروة صنائعه، حيث تستمد قوتها وتأثيرها من عمق الإنسان الذي يستند إلى تاريخه في انتمائه الإيجابي.

لندرك إمكانية وصول الوعي بالدولة في إدراك الفرد لضمان حركته الإيجابية تجاه البناء التلقائي اشتراكا مع الكل، وهذا ما يجب أن يحدث لاختصار عمر البناء، وكبح نزيف الوقت، ثم استثمارا للجهود ودفقها في مجرى ً تراكمي عبر الوقت.

يحتاج كل ذلك إلى تجلي المقدمات الأساسية المتكونة من عناصرها الأولية - النفسية والمادية - والتي تشكل وعي الدولة في الإدراك الفردي كسبب، ثم الجمعي كمسبب، لأن النتيجة من تلاقح الإدراكات الفردية والجمعية تصب في العلة الأساسية لصورة الدولة في وعي الناس.

لذلك نجد كيانات ٍ تمثل دولا ًبالضرورة، دون العمل على إنعاشها نظريا ً كل حين، والاحتياج لإسباغ الوصف الغائب عن الموجود بأداة السياسة، لأنها تمارس يوميا ًصورة الدولة المنبثقة من الوعي الذاتي لكل مواطن تربطه علاقة عضوية بكيانه.

ما نعيشه من واقع يختلط على كل من يجتهد بتحليله، وتوصيفه، وأعتقد أننا نعيش حالة استثنائية لا يمكن أن يبنى عليها، ففي المجتمع تنشأ حركات انفصالية بالباطن، تحافظ على أشكالها داخل تجاويف منفصلة، ما يؤثر بوضوح على بناء ٍ يشبه روح الدولة.

لذا يجب أن نمعن التفكير في كيفية تأهيل المجتمع الذي يعتبر البذرة الأساسية للدولة الحديثة، بما يحتوي من مكونات متجددة وعناصر مغذية للديمومة والتطور، عكس ما يحدث من تركيز الجهد على كيانات أدنى وتوجيه الإمكانات لدوائر أضيق تفقد قوة التغيير العام وتشتت المركزية الرؤيوية، ثم تفقد المجتمع كثيرا ًمن قوته في مواجهته لتحدياته المتجددة بتراكم مطرد.

إن أهمية طرق هذا الحديث هو أهمية الاقتناع بأنه يجب على الفلسطيني أن يخلق عاملا ًمشتركا ينصب عليه جهد كل مواطن، ويمثل هذا العامل وعاءً يتقولب فيه النشاط العام مصاغا ًكنظام حياةٍ يوميةٍ تتوالى فيه الجهود الفردية لتبني في النهاية هوية فلسطينية قوية وعميقة، لنرى آثار هذا النشاط عملا ًمنجزا ًيحكي قصة هذا الشعب في صورة متكاملة كما بنى الفراعنة أهرامهم التي عجزت أي حضارة لاحقة عن إنتاج شيء مثله، وكما بنيت حدائق بابل المعلقة، وكما صنعت كل حضارة انجازها الذي مثل رمزا ًلها ومثل هويتها قبل أن تصل إلى فكرة الدولة في حينه.

لنجد أننا نتحدث عن الحاجة إلى باعثٍ مشترك في الإطار العام، يدفع كل فردٍ للمشاركة في وضع لبنة للبناء، وأن يسكن الوعي ليشكل التفكير فيحث الجموع على العمل المتواصل لانجاز معجزاتهم.

وهنا إذ نتناول فكرة الدولة اللاحقة في ظهورها للمجتمع لا نحاول دراسة بنيويتها التي تقترب للمادة وتنفصل عن امتداد الإنسان، بل ما نريد هو التوحد بين الكيانين في اتصال وجداني، وأن ندرسها كمؤثر على فعل الفرد وغائية يحاول المواطن الفلسطيني الوصول إلى شكلها العصري الذي نعيش.