صور ناطقة للتحوت والروابض 59، 60
صور ناطقة للتحوت والروابض
أحمد الجدع
[59]
-- -----------------------------
لم يحصد عهده سوى المظالم والهزائم ، ولكنه مع ذلك لم يفقد بريقه عند أمة العرب التي يبدو أنها استكانت للمظالم وعشقت الهزائم .
كانت صور حبه عند العرب تكاد أن لا تصدق ، ولو أني سمحت لنفسي أن تسترسل في ذكرها وسردها لما توقف القلم ، ولكن هذه صورة منها :
كانا في سجال ، يقول هذا رأيه منتقداً الزعيم ، ويقول ذاك رأيه مبجلاً الزعيم معلياً من شأنه مفرطاً في حبه .
لم يتوقفا عن اللجاج في المحاورات ، فأينما كانوا لا بد من هذا اللجاج ، حتى في المسجد كانا لا يكفان عن هذا النقاش الممقوت !
قال لصاحبه وهو يجادله : أرأيت ما فعله زعيمك بنا ، لقد خان وطنه وأمته عندما سلّم سيناء لعدونا ، وكان سبباً في ضياع الجولان ، وكان من جلب علينا الكارثة فأضاع ما تبقى من فلسطين بما فيها القدس الشريف ومسجدنا الأقصى .
ضاق الرجل بما سمع ، ولم يستطع أن ينفي هذه الحقائق ، ولكن حبه لزعيمه قد سيطر على نفسه ، وكان يؤكد لكل من سمعه أن زعيمنا هو هتلر العرب !
قال له صاحبه : وهل جرّ هتلر على قومه إلا الخراب والدمار .
لم يستطع أن يخرج من هذا المأزق ، ونسي أنه يجلس في المسجد ، فقال لصاحبه وهو حانق غاضب : أتدري لمن جئت أصلي في هذا المسجد ؟
قال صاحبه : لله طبعاً .
رد عليه وقد غلب عليه شيطانه : لا ، لقد جئت هنا لأصلي للزعيم ...
صدم صاحبه ، وأدرك أنه جرّ الرجل بجداله إلى الكفر ، فأطبق شفتيه ساكتاً مستغفراً ربه ، وظن أنه قد أثم بما فعل ، وقال لنفسه : لقد نسيت قول الله تعالى : {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا} .
ساد الصمت ، لم يتكلم أحد ... أقيمت الصلاة فصلّيا .
ما كنت أظن أن الرجل كان يعني ما يقول عندما قال ما قال ، ولكن الشيطان قد استحوذ عليه لأنه استرسل مع صاحبه في الجدال في مكان لا يسمح فيه بالجدال ...
أستغفر الله .
==========
[60]
-------------------------------
ووقعت الواقعة ، وهزمت أمة بكاملها في ساعات ... ولم تهتز عروش ولم ترتعش رؤساء .
وكان كل هم هؤلاء وهؤلاء أن يثبتوا عروشهم وأن يسندوا رئاساتهم ، فكان مما فعله صاحب الصيت العالي ، والشعبية الطاغية ، الذي كان قد بنى مجده على فلسطين ، ودغدغ كل العرب وأنامهم على حلم النصر العظيم ، أن دعا إلى مؤتمر يحضره واحد من كل مدينة فلسطينية ليبحث معهم ما آلت إليه القضية .
هنا في مدينة من مدن فلسطين اختار الناس رجلاً ممن عرف عنه أنه من أنصار الزعيم ومن المبالغين في حبه إلى درجة اقتربت من العبادة .
أوصى الناس هذا الرجل أن يكون جاداً وصريحاً مع الزعيم ، ويسأله عما أوصلنا إلى الهزيمة الكبرى ، وكيف السبيل إلى تدارك الأخطاء حتى لا ننهزم مرة أخرى !
كان الرجل فرحاً بهذا الاختيار ، كان ينام ليله في أحلام ، ويقضي نهاره على الأوهام ، حتى إذا جاء الموعود طار إلى حيث الزعيم ، وليس في رأسه إلا الأماني لمشاهدة الزعيم ، أسطورة العرب أجمعين .
وهناك حشد أبناء فلسطين ، وخطب فيهم الزعيم ، وصارحهم أنه لا يملك خطة لتحرير فلسطين ، ومن قال غير ذلك فقد أخطأ ، واعترف لهم أنه أخطأ في حقهم وعليهم أن يدبروا أمرهم بأنفسهم .
وساد الوجوم ، وأبلس هنالك القوم الذين كانوا بالزعيم مؤمنين ، وما قطع الوجوم إلا رجل من أنصار الزعيم وهو يقول له : إنك مخطئ فقط عندما اعترفت أنك مخطئ ، إنك يا زعيمنا لا تخطئ أبداً .
وهنا دوت القاعة بالتصفيق ... وعلى القدس السلام .
رجع الرجل وقد ملأ عينيه برؤية الزعيم ، وخيلت له نفسه أن يرسم صورة أخرى لما حدث ، فعندما احتشد الناس أمام بيته ليسمعوا جواب ما أرسلوه إليه ، كان يردد لهم بفخر عظيم مقولته التي تندر بها كثير من الناس : أقسم لكم جميعاً أنني اندفعت نحو الرئيس حتى اقتربت منه ومسّ كتفي كتفه .
ألا ما أعظم ما حظيت به ، وما أعظم ما رجعت به إلى قومك .
حسبنا الله .