سجّل: أنا عربيّ
وائل أبو هلال
معذرة "درويش" ... فهذا زمن تسجيل أرقام الثورات، وزمن تسجيل تواريخ سقوط الطغاة، لا زمن أرقام البطاقات!! وبطاقة العربيّ اليوم ما عادت تلك التي تصدرها وزارات الداخلية موسومة برقمه الذي يُجلب عليه، وإنّما هي صورته رافعاً يافطة: "إرحل"! كلّ من لم يرفع يافطة فلا بطاقة تعريف له!
عربيُّ اليوم – يا شاعر الثورة - يملأ "ميادين التحرير" من "طنجة" لـ"مسقط"؛ رايته واحدة وصرخته واحدة ووجهته واحدة وكلمته واحدة: الحرية.
من "قيروان" عقبة بن نافع انطلقت صرخته الأولى؛ سجّل: أنّي قد امتشقتُ شعلة الثورة بيد المقموعين والمحروقين في سيدي بوزيد "الهلالية"! وسلّمتها للغنّوشي - المطارد عشرين عاماً في المنافي - راية حرية حمراء يرفعها على سارية العدل في تونس الخضراء. وها هو اليوم مع المرزوقي والجبالي والعريض وبقيّة الثلة ممن دفعوا زهرات شبابهم ثمنا لحرية شعبهم يعمّدون شهداءهم بنشيدهم الخالد:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ومن أحضان النيل الهادر ها هم شباب مصر العروبة من صعيدها لبحرها، يستجيبون لهذا النشيد الخالد فيرددون صداه على طريقتهم: سجّل أنا عربيّ؛ أصْلي كلمةُ عزّ متجذّرة في ميدان التحرير في قاهرة العزّ بن عبد السلام بائع الملوك، وفَرْعِي بيرقُ نصرٍ يرفرف في فضاءات السويس وبورسعيد والإسماعيلية والإسكندرية. شباب علّموا العالم معنى الصمود المختلط بالوعي المضمّخ بالتضحية ... لا يعرفون كللاً ولا مللاً، أسقطوا مراوغات "الفلول"، والتفّوا على مماطلات "العسكر" بمليونياتهم. لا يحدّ حريتهم سقف إلا الحرية! ولا يقبلون للعدل بديلا! لا أنصاف حلول لديهم؛ فغايتهم واضحة وضوح الحقّ لا يغطيها غربال الباطل!
وما كان لشعب شعاره: "نحن ننتصر أو نموت" أن يقبل في زمن العزة قهراً من "معتوه" طال أمده؛ فاستلهم من عمق تاريخه لحناً لثورته: سجّل أنا عربيَ؛ ماردٌ صحراويٌَ انتفض في بنغازي فأيقظ المصراتيين والزنتانيين، ولملم شعث "المختاريين" من فيافي سبها إلى شواطيء طرابلس ... فأخرجوا "النّمرود" من جحره، وتقدّمهم عبد الجليل وعبد الحكيم برايات النصر صعوداً نحو الجبل الأخضر، ليسطروا على ذراه "إلياذة" مجد جديدة لم يعرفها "هوميروس"، ولا يفكّ رموزها جنود "الناتو" حتى وإن حاولوا!
وها هي رياح الربيع تحمل الياسمين لباب المندب وتعز وعدن و"شارع الستين" في صنعاء، فيتنسّمها شباب يبدعون رجزاً ثورياً يصمّ آذان مرتزقة "شارع السبعين"، ويشفي صدور عربٍ ثائرين: سجّل أنا يمنيٌّ، أختي يمنيّة!! تتبختر في "الإليزيه" مزهوّةً بإرث "الصنعانيَ" و"الشوكانيّ"؛ تحمل رسالة الملايين من إخوانها وأخواتها، الرابضين بأجسادهم النحيلة في وجه آلة قمع "المحروق"، الذي أحرق بقيّةً من "يمنٍ سعيد" بعد أن نهب خيراته ظاهرة وباطنة طيلة ثلاثين عاما.
من على قمة "قاسيون"، ومن جنبات "بردى" المتلوّي في ثنايا "ربوته"، ومن جنبات "غوطة" إبن تيمية، ومن تحت سقف "الأموي" الغافي في ظل قلعة صلاح الدين الأيوبي، ومن تحت رذاذ نواعير "العاصي"، ومن .. ومن ... ومن كل زاوية من زوايا التاريخ الذي يعج بالرموز والعراقة والعظمة والعلم والتضحية؛ يربك الشآميّون سجّانيهم، ويذهلون شانئيهم؛ إذ يخرج منهم "قشوع" فيبيع حنجرته بذخر من الحرية عظيم: سجّل! أنا عربيٌّ أمويٌّ حمويّ شاميٌّ حلبيٌّ حمصيٌّ حورانيٌّ ... أتقافز - وخلفي فيالق الأحرار كالنّسور - فوق أسنّة الرماح المغروسة على امتداد الشام لأصطاد حريّتي من فم "الأسد". في داريا ودرعا ودوما والتل وإدلب وبابا عمرو وتلكلخ ... ومئات المواقع يومياً تموج بالمحتجين، عفواً بالاستشهاديين فمن يعلن احتجاجه في سوريا فهو استشهادي، حطّموا كل سقوف الخوف ليبلغوا عنان حريتهم؛ وكانّي بهم يستذكرون سلام شوقي لبردى:
وللحرية الحمراء باب بكل يدٍ مضرجة يدقّ
أيا "درويش"؛ ها هو العربيّ المكبّل بالقهر والذلّ دهرا يقطف أولى ثمرات عزته؛ فهذي شوارع نيويورك وغيرها من عواصم الغرب "تسجّل" بلكنتها أنّها عربية وتريد أن تسقط النظام!!
أيا "درويش" لم يعد العربيّ بطاقةً تسجّل أرقامها، وإنّما رقما يحسب له ألف حساب في الأمم، بعد أن كانت ملايين منه تمرّ بلا حساب.
منذ اليوم، بل منذ اشتعل جسد "البوعزيزي" بنور الثورة، فليسجّل العالم أنّي عربيَ.